أوقفت السيارة وبدلاً من الترجل بقيت مسترخياً فيها لبعض الوقت وأنا مستمتع بأغنية زيدان ابراهيم التي يقول مطلعها (باب الريدة وانسدَّ نقول ياربي ايه جدَّ تمر ايام وتتعدى ونقعد نحسب في المدَّة)، وهي من كلمات الشاعر التيجاني الحاج موسى - شفاه الله مما حدث له بلندن - ولحنها الفنان عمر الشاعر وهي من اغاني السبعينات التي ابكت جيلنا كثيراً، وقد انتقل زيدان بهذه الاغنية الى مصاف كبار الفنانين فحلاوة الكلمات مع خفة اللحن وصوت زيدان المعتق تجعلك محلقا في عوالم غير عالمنا الذي يكتم الانفاس. بعد ان انتهت الاغنية ترجلت، وما كنت ادرى ان احداً يراقبني اذ اقبل علي احدهم بعد السلام (حق الله بق الله) سألني بإستغراب لا يخلو من الاستنكار: هل يعقل ان ابقى في السيارة بعد الوصول من اجل الاستماع الى اغنية؟ فأجبته بالايجاب وزدته من الشعر بيتاً وقلت له يمكن ان اغير مشواري من اجل اغنية. وحكيت له انني عندما كنت طالبا في الجامعة كنت اركب بكسى ويومها كانت تسمى (برنسة) وذهبت بالبرنسة الى نهاية الخط في امتداد ناصر من اجل الاستماع الى شريط لزيدان كان فيه (في الليلة ديك) و(في بعدك ياغالي) و(وسط الزهور متصور) وغيرها من روائع زيدان، من المؤكد ان الرجل قد فارقني وهو يقول في سره (عدم الشغلة مصيبة) وهذه احسن من الفائق (مافي داعي للاكمال). هذا الموقف يذكرني بصديق آخر ركب معي ذات مرة وكان يغني من مسجل العربة هاشم ميرغني (فنان المشوكشين) ومن اغنيات ذلك الشريط (هسه خائف من فراقك لما يحصل ببقى كيف) و(يعني ما مشتاقة لي) و(غيب وتعال) و(حان الزفاف وانا حالي كيفن بوصفه) فسألني ان كنت أسمع هذه الأغنيات عندما تكون بناتي معي من والى الجامعة، فلم اجبه بالايجاب بل زدته من الشعر بيتاً وقلت له بل اترنم معه لكن بدون (سكسكة) وقلت له انني لا أميل لسماع الاشرطة وافضل سماع الراديو في العربة، ولكن عندما اجد شريط لقطة لا اتركه، وكذلك عندما تاتي اغنية من الراديو اعيش معها باعصابي خاصة اذا كانت من اغاني السبعينات. وبالطبع استنكر ذلك الصديق على هذا الامر لأن هذا لا يتناسب مع الكهول من أمثالنا وكأني به يقول يجب الاقلاع عن الغناء مثلما يقلع الواحد عن التنباك والسجاير والحاجات التانية الحامياني. لا أعتقد ان الغناء له عمر معين ولا أعتقد ان هناك اغنيات خاصة لكل عمر، فالفنون لا تعرف الاطر الزمنية أو الجغرافية ولا أظن ان الكهل الذى يستمتع بالغناء به سفه ولا أحتاج الى ايراد رأى حجة الاسلام الامام الغزالي الايجابي في الغناء وتكفي خلاصته التي تقول ان حسنه حسن وقبيحه قبيح. واعتقد ان الفطرة الانسانية لا تنفر من الغناء وليس بالضرورة ان يرتبط الاعجاب بأغنية معينة ان يكون معبراً عن حالة للمتلقي. فجيلنا نشأ على اغاني الحرمان ولكن لا يعني هذا انه ما زال يعيش على ذكريات الحرمان فيمكن ان يكون الموقف من الغناء موقفاً فنياً بحتاً فتعجبك كلمات وهي تعبر حالة حرمان (يا الحرموني منك) وكلمات اخرى تعبر عن سعادة (شرباتنا بالافراح تطوف على كل موالف وكل ولوف) ويمكن ان تعجب باللحن والموسيقي فقط، لا بل يمكن ان تعجب بأداء الفنان فقط، فمثلاً عندما يغني ترباس فأنت لا تحتاج الى كلمات أو لحن بل صوت ترباس وأداؤه يجعلك تطرب للنهاية ولكن عزيزي القارىء (قرب اضانك جاى) اذا كنت كهلاً وتجد نفسك في اغاني المشوكشين، فهذا يعني ان لديك قابلية لشاكوش مصلح.