و لإخوان في الوطن كانوا ، هناك أيضا حكايات عن ولعهم بزيدان ومرحلة زيدان. فقبل سنوات كان يدهشني تعلق إخوة من جنوب السودان بأغاني معينة من مرحلة الستينات ، زمن إزدهار الأغنية السودانية الحديثة كما يشير إلي ذلك مختلف الباحثين ، وامتدادها الي بروز الأستاذ مصطفي سيد أحمد و آخرين أواخر السبعينات . و تلك الأغاني التي كان بعض أصدقائي من جنوب السودان مولعا بها في ذلك الحين تحديدا: "حارمنّي ليه" و "حبيبي قلبي فاكرك" و "أوراق الخريف" للراحل عثمان حسين ، و " أسير الغرام" و "كلمة" لصلاح ابن البادية ، و "الوصية" و "يا حلو" و "لو بكاي همّاك" لمحمد وردي ، و "ضنين الوعد" لعبد الكريم الكابلي. البحث عن إجابة مقنعة لهذا التعلق المتفرد بأغاني تلك الحقبة وامتداداتها لازمني أيضا في هجرتي الأوروبية و بما أنني دارس هاو – غير متخصص - للموسيقي ، و تحديدا للأصوات والآلات الموسيقية المختلفة فقد قادني ذلك للقيام بمختلف الاستطلاعات وسط العديد من أصدقائي و معارفي الجنوبيين في بعض أنحاء مهجرهم الأوروبي و في السودان أيضا خلال زياراتي المتباعدة ، وكانت النتائج مماثلة في إثارتها ، أي أنها لم "تشف غليلي" في ايجاد الاجابة المريحة والحاسمة لهذا التعلق و الوله بتلك الأغاني. و فاة العندليب زيدان كانت اكثر معين لشخصي الضعيف في استقراء بعض جوانب المسألة ، فقد هاتفني صديقي سالينتينو ، من أبناء الاستوائية ، ويسكن مدينة ميونيخ ، بالخبر الأليم معلنا بنبرة مؤسية "زيدان مات" و اضاف "زيدان يذكرني أمدرمان وأنا تلميذ صغير بالمدرسة" و أن الأغنية التي يبحث عنها و لم يجدها حتي الآن ليحتفظ بها في مكتبته هي "معذرة" وهي التي يستهلها ب (يا ما بقيت حيران) من ألحان موسيقار الخمسينات والستينات المتفرد أحمد زاهر ، و فعلا و بعد بحث مضن وجدناها في أحد مواقع الانترنت ولكنها أيضا لم "تشف غليله" فقد كان مصرا علي تسجيل الاذاعة الأصلي ، ولدهشتي أيضا ذكر لي السنة التقريبية لذلك التسجيل الأصلي بإذاعة أمدرمان وكان ذلك حسب تقديره في حوالي 1970-71 . و عند الاستفسار عن أسرار ذلك التسجيل خلصنا - حسب شغف سالينتينو بتلك الأغنية بتسجيلها الأصلي في مكتبة الاذاعة الأمدرمانية – أن الراحل زيدان لم يكرر ذلك الأداء المريح و علي مقام البيز - أو القرار الصوتي - و التطريب الذي يهم سالنتيونو خصوصا في مقطع (من الحصل يا جميل أرجوك أعذرني) في أي تسجيل لاحق . بمعني آخر أن سالينتينو لا يطرب لنفس الأغنية وبنفس اللحن لو غناها الراحل زيدان بالعود مثلا ، أو في حفل عرس ، و يقول مؤكدا هي أغنية للاستماع فقط و التطريب و ليست للرقص أو المناسبات علي سبيل المثال . و سالينتييو لا يتعصب لزيدان وحده بل تطربه الكثير من الاغنيات لفنانين آخرين كمحمد ميرغني في "غيب علي" و " كفاي الوحدة أنا ما بقدر طريقك تاني أمشيه" و "مين فكرك" من ألحان الموسيقار حسن بابكر ، و كذلك عثمان مصطفي في "تاني بيني وبينك إيه" من ألحان الموسيقار عبدالله عربي ، و "مشتاقين" لحن الفنان محمد وردي. الرابط المشترك لهذه الأغاني أنها ظهرت للوجود في الستينات . التعبير المحق لسالينتينو و كذلك صديقنا المشترك غابريال ألوانق (من أعالي النيل) هو أنه و في الستينات كانت الأغنية السودانية في عنفوان إزدهارها و لم يكن متاحا سوي للأصوات الجميلة و المتمكنة من الولوج إلي ذلك العالم القاسي و الجميل في آن عن طريق الأذاعة. و لمعرفة أسرار الأوركسترا و التسجيل أيضا في تلك الفترة ذكر باحث الأغنية السودانية الحديثة الأستاذ معاوية حسن ياسين مرة أن العازفين السودانيين – و بعضهم من أصول سودانية جنوبية – كان لهم إسهام مقدر في إخراج كثير من أغنيات الستينات و ما بعدها بتلك الصورة البهية و الآسرة التي بدت عليها و خصوصا في موسيقي الاستهلال أو المقدمة (prologue) و تنويع الكوبليهات و الخاتمة (finale) و كذلك في اللوازم المصاحبة للأداء و كما لاحظ غبريال فإن الأغنيات التي يؤديها عازفو أوركسترالاذاعة القدامي و التي تكون من ألحان موسيقيي الاذاعة من أمثال الراحل علاء الدين حمزة و الملحن الكبير والمغمور (دارس النوتة) الذي وفد للإذاعة من سلاح الموسيقي موسي محمد أبراهيم في لحنه الفريد الذي اداه المبدع الراحل أبو داؤود "كفاية" ، والاشارة أيضا أتت من صديقنا غبريال و خلاصتها أن العازفين أولئك كانوا يتمظهرون في "أوضح تجليهم" عندما تكون الألحان من صنع أحدهم ، حينها تصل ابداعاتهم قمتها و يبدون ارتياحا جليا في ايصال النغم المصاحب و ايقاعاته بصدق فني عال. عودة للعندليب الراحل زيدان فقد سألت سالينتينو إن كان التقي زيدان شخصيا فذكر لي أنه شاهده مرات عدة في امدرمان في العباسية و لكنه لم يقترب منه ، لآنه خجول بطبعه و لايحب التطفل ، و كعادته كما ذكر لم يكن في بيتهم راديو و لا تلفزيون في الستينات و حتي في السبعينات و كان يستمع لأغنيات الاذاعة في الدكان المجاور أو في السينما بين الاستراحات أو في بعض البصات والحافلات التي كان سائقيها من ذوي الذوق الرفيع و كان يطرب فقط لتسجيلات الاذاعة لأن تسجيلها محكم و الاوركسترا متكاملة ، و لكنه و رغم عدم معرفته لزيدان معرفة شخصية فقد بني في خياله الغض وقتها صورة مثالية لذلك المبدع ، خصوصا أغنيات "قلبك ليه تبدل" و "معاك قضيت عمر السنين" التي يتجلي فيها الأداء الرومانسي الأخاذ. وهل تعجبك كلمات أغنيات زيدان؟ لم يكن سالينتينو يدقق فيها كثيرا ، و في رأيي الخاص أنه محق ، فبعض السودانيين يخلطون بين القصيدة المجردة و الأغنية . و قد لا حظنا أن كبار المطرين العالميين كمثال مايكل جاكسون تكون كلمات اغنياتهم أو ال (lyrics) في غاية البساطة ، ونفس الشئ عند الألمان فبعض كلمات أغانيهم لا ترتقي أبدا لمستوي بلاغة و سحر قصائد شعراء اللغة الألمانية المعروفين ، وربما تفرد في هذا عندنا في السودان الراحل المقيم مصطفي سيد أحمد و كمثال في رائعته "ياسلام": (الوردة لو خانا –ها- الفراش ما اظن تلومو مع الندي) كلمات مفعمة بالصور و الأخيلة ، لن تجد ذلك كثيرا في أغاني المطريين الأوروبيين وغيرهم ، و من الملاحظ في بعض منتديات الانترنت السودانية شغف الكثيرين بكلمات الأغنيات مجردة من لحنها و موسيقاها ، إلا أن الكلمات لكي تصبح أغنية لا بد لها من توفر الصوت الجميل الملآن و اللحن و الموسيقي والأداء. و هذا بالتحديد ما ذكره الصديق سالينتينو مستشهدا بأغنية زيدان التي لم يعثر عليها حتي الآن ليضمها الي مكتبته المميزة أي "معذرة". و ذلك مااتفقنا عليه ثلاثتنا ، أي بإضافة غبريال ، أن اغنيات التلفزيون السوداني المسجلة حديثا كثيرا ما تكون "مجوبكة" أي فاقدة للطعم و ذلك عائد لترهل العازفين و مساخة القائمين علي التسجيل - ذكر لي أحد مخضرمي الاذاعة الامدرمانية أن فنيي تسجيل الأغاني في الستينات كان يبعث بهم خصيصا في دورات الي ألمانيا – منهم الفني القدير وصفي جبرة – لإجادة فن تسجيل الصوت و الالات الموسيقية ، علي الرغم من غياب الاستيريو في ذلك الزمن و مرورا بالسبعينات والثمانينات . تجد ذلك جليا في أغنية مثل "الوصية" التي يحلو لصديقنا سالينتينو الاستماع اليها مجسمة في عدة (لاود سبيكرز) وهو يقوم بفرز أصوات الدربكة و البنقز و الكونترباص المجسم (بكسر وتشديد السين) للايقاع مرورا بالترمبيت والكمان و وردي في تلك الأغنية يشدو بالصوت القرار المتميز لوردي الستينات . أغنيتان فقط لا يسنطيع صديقنا سالنتينو الاستماع لهما و هو جالس "الوصية" و "قلبك ليه تبدل" للعندليب زيدان . عنما سألته السبب أجاب وهو يبتسم : دي أغنيات كلاسيك مش حتتكرر . ويضيف ضاحكا "الاحترام ليها واجب". ولو عثر - كما قال - علي تسجيل الإذاعة الأول الأصلي ل "ضنين الوعد" (في 1963) لأولاها نفس الاحترام و الإجلال ، وعند استفساري قال أنه لاحظ أن صوت كابلي في ذلك التسجيل بدا فرحا؟ و لما أبديت استنكاري للتعبير حيث أن كلمات الأغنية المذكورة مفعمة بالشجن و الأسي والتحدي ، قال أن التعبير العربي خانه وذكر معادلا له باللغة الألمانية و اتفقنا أخيرا علي لفظة “elated" الانجليزية التي تقترب من "نشوان" أو "مبتهج" العربية ، وفي هذا السياق يذكر سالينتينو و بفخر أغنية "مرحبا ياشوق" لوردي الذي لحسن حظه كما ذكر يحتفظ بها مسجلة و مكنونة بأصالتها ألأولي (أي تسجيل سنة 1968). و عندما سألت صديقي سالينتينو و غبريال عن استمرار تعلقهما بكلاسيكيات الستينات والسبعينات و هما سيعودان – في اجازاتهما – الي وطن جديد أي جمهورية جنوب السودان كان ردهما مفعما بالشجن بأن هذا الوله لن يفارقهما حتي الممات و سيورثانه لأطفالهما. و لكني أضفتُ مستذكرا بأن الأغنية السودانية الحديثة قد تكون امتدادا للمارشات العسكرية القديمة لجنود "الجهادية" من القرن التاسع عشر و أوائل القرن العشرين مرورا بتم تم كوستي ، و كوستي جغرافيا هي امتداد طبيعي للجنوب. مدينة توبنغن - ألمانيا [email protected]