أقامت (الرأي العام) ندوة عرض فيها فيلم وثائقي بعنوان (قريباً منهم) عن تجربة الفنان التشكيلي أحمد عبد العال بحضوره، وحضور د.عبد الله حمدنا الله والأستاذ مجذوب عيدروس. وتعرض الفيلم لحياة عبد العال ومراحل دراسته ونماذج من أعماله وحديث عنه بواسطة عيسي الحلو وراشد دياب، وشهادات عبد العال نفسه وهو في مرسمه، كما مس الفيلم القضية التشكيلية في السودان بوجه عام وتعرض لوجهات النظر الناقدة لعبد العال، والفيلم من اعداد عيسى الحلو, واخراج سيف الدين حسن. وقد طرح الحوار في مجمله العلاقة بين الفكر والفن، وكان الناقد مجذوب عيدروس قد تحدث عقب عرض الفيلم منوهاً إلى أن أبرز ما يميز أحمد عبدالعال هو الرباط المحكم بين التنظير والتطبيق في مشروعه، وهو ما تفتقده كثير من الأعمال الفنية في السودان. ويرى عيدروس أنه لابد للعمل الفني من روح تقف وراءه، وأن الفن يجب أن يرتبط بالفكرة إذ أنه ثمرة تأمل طويل وحوار داخل الذات ومع الآخرين والكائنات الأخرى. ووفق حديث عيدروس فإن الكلمة هي دائماً تعبير عن فكرة وأنها تكمل عمل اللوحة، وهو يتذكر في كتابات عبد العال الباكرة رؤيته حول علم الجمال الإسلامي وتركيزه على عوالم محيي الدين بن عربي التي تعتبر قمة في التعبير وجماليات الأداء. وأشار إلى ما أنجزه التشكيليون السودانيون القدماء كما نرى في الآثار السودانية، إذ كان الإنسان السوداني الأول يشتغل بيديه ويحاكي ما يوجد حوله في البيئة، وقال إن التوثيق يثبت الحقائق ويفتح الباب لحوار موضوعي هاديء حول مختلف المدارس التشكيلية التي تسعى إلى التجريب. أما د.عبدالله حمدنا الله فقد إستلهم في بداية حديثه رأي العقاد حول أن الناس قسمان: قسم يتأمل الجمال ويعجب به حين يراه، وقسم يصنع الجمال وهم قلة من المبدعين الذين يحفظون للنوع الإنساني سموه، أما من لا يدرك الجمال ولا يصنعه فهو من البكماوات. وعبد العال ليس تشكيلياً فحسب وفق كلام حمدنا الله ولكنه صاحب رؤية ينطلق منها في جميع أعماله، إذ أن اللوحة عنده ليست عملاً فردياً يريد أن ينتجه فحسب، ولكن أعمال أحمد كما يؤكد حمدنا الله جميلة في ذاتها وجميلة في موضعها، وذكر أن ناقداً تساءل مرة (لا ندري إذا كان عبد العال مفكراً يرسم أم رساماً يفكر؟). أما الحديث عن النقد الذي يتناول أحمد فهو يؤكد كما يرى حمدنا الله أن هذا العمل جيد ويثير جدلاً نقدياً واسعاً. ويرى أن أزمة الفن التشكيلي تعود لكونه لا يزال فناً صفوياً لم ينزل لعامة الناس في الشوارع والحواري، كما أنه سلعة رأسمالية عالية التكلفة لا يتمكن الفقراء والمساكين من إمتلاكها، أما السبب الثالث للأزمة فهو غياب الثقافة الفنية. وأحمد عبد العال كما عرفه حمدنا الله رجل واضح جداً لذلك يظلمه ويتجنى عليه كثيرون، فهو لا يهرب من الحوارات حتى يبدو للناظرين شرساً، ولكن أحمد الذي عرفه حمدنا الله يوجد في داخله طفل صغير، ومهما يكن من أمر فإنه ليس فناناً تشكيلياً أو مفكراً فحسب لكنه قامة فكرية وتشكيلية بين قاماتنا كما يقول حمدنا الله. وقال إن ألوان الفيلم جعلته يشعر بالراحة خصوصاً القمصان الملونة التي كان يرتديها عبد العال عبر مشاهد الفيلم. وعلق الأستاذ يوسف إبراهيم كاتب السيناريو على جودة إنتاج الفيلم الوثائقي وتميزه. وتساءل الكاتب مجاهد بشير حول جدوى إلتزام الفنان بمدرسة فلسفية محددة مشيراً إلى تلك الآراء التي تقارب الفن بوصفه لعباً، وقال إنه بصفته متذوقاً للفن فإن أفكار عبد العال تقف بينه وبين التفاعل مع أعماله الفنية على الرغم من تقنيتها الحرفية العالية، كما تعرض في حديثه لإحتكار عبد العال للمنبر التشكيلي الرسمي. وفي بداية حديثه شكر الفنان عبد العال الجميع خاصة الأستاذ عيسى الحلو الذي وهب زهرات عمره للثقافة السودانية ونوه بمعارف عيسى حول الصورة من حيث هي تركيب عقلي ثقافي مترابط في سيال زماني. وأعلن عبد العال أن تجربته تبحث عن التحقق في العمل الفني وذلك يعني أنه يتحيز في عمله وليس له، كما قال، وهي تجربة من المأمول أن تستنفد العمر برمته. وفي معرض تعقيبه على حديث مجاهد بشير يقول عبد العال: إن طبيعة الحياة والعمر القصيرة لا تتيح تعلق الإنسان بفلسفات ومذاهب شتى، وقال إنه لا يستطيع أن يرى الوجود بأية رؤية أخرى سوى الإسلام، وشدد عبدالعال على هذه النقطة بالتحديد مشيراً إلى أن قدراته كلها تتجلى تحت لا إله إلاَّ الله، وأعلن عدم حاجته إلى سقوف أخرى، وعلى المتذوقين أن يقبلوا أعماله لو شاءوا أو ينصرفوا عنها. وقال أحمد إنه يتأذن الله بدورة جديدة للحضارة العربية الإسلامية، وإنه يعيش على هذا اليقين، واليقين برد يعيش به الإنسان طيلة حياته إذا كان صادقاً، ونفى ما يدور حول هيمنته على منابر التشكيل، وأكد أن جهده كفنان هو لثقافة أهل السودان وليس لحكومته، وأشار لأن الفن كان في الأساس خياره الوجودي في الحياة منذ نعومة أظفاره إذ بقى في بلاده بخلاف كثيرين خرجوا بعيداً، وقال عبد العال: (لو كنت حياً في زمن المهدية لصممت راياتها وسروجها ورسم دولتها، ولكنت فعلت ذلك مع كل الأنظمة الوطنية بعد الإستقلال). واستبعد أحمد فكرة عرض الأعمال في الصالات بل طرح أن يتم وصول الناس في قراهم وبواديهم ومدنهم وكشف عن إعتزامه تقديم برنامج تفصيلي بخصوص ذلك. وطالب بتجديد المنهج الدراسي بكلية الفنون القائم على الرضاعة من ثدي المنجز الغربي لنصل مرحلة الفطام بناء على الهوية الحضارية والثقافية وأن نرجع إلى جذورنا وننظر إلى ملامحنا وننأى عن عقدة الدونية الثقافية عبر العلم والبحوث والكتابة الممنهجة. وقال إن العالم لا يحتاج مزيداً من الحرفيين لكنه يحتاج إلى المزيد من الرؤى، وطالب بالابتعاد عن التجريد المنهك الذي يتبناه الطلاب والشباب. وأبدى الأستاذ عيسى الحلو في كلمته سعادته بالحضور. وعاد د. عبد الله حمدنا الله ليناقش ما أثاره الكاتب مجاهد بشير قائلاً: إن تعبير الفن عن الفكرة قديم منذ أفلاطون الذي قال إن الفنون محاكاة لعالم المثل واستمرت هذه النظرية حتى وصلنا إلى أن الفنون هي تعبير عن الذات وصار الصدق الفني معياراً للحكم على الفن، وأضاف أن مقولة عدم إلتزام الفنان بمذهب فلسفي محدد هي في جوهرها صحيحة من جانب وخاطئة من جانب آخر، فلو حاول الإنسان خدمة فكرة عبر كسر قواعد الفن لأضاع الفكرة وأضاع الفن، ولكن في نفس الوقت لا يمكن للفنان أن يعمل دون رؤية، ولا يوجد فنان حقيقي بدون رؤية.