سعدت بحضور المنتدى الذي أقامته الأمانة العمة لهيئة المستشارية بالتنسيق مع الأمانة العامة للمجلس القومي للتخطيط الاستراتيجي واختارت عنواناً: «الوحدة الوطنية قدر أم خيار». وتحدث فيه د. رياك قاي، ود. تاج السر محجوب وهما علمان لا أحتاج لتقويمهما، أحدهما يرود الأمانة العامة للمجلس القومي للتخطيط الاستراتيجي والآخر من إخواننا السياسيين الجنوبيين وهو لا يود أن يوصف بالجنوبية وهو عضو بارز في المؤتمر الوطني. والوحدة الوطنية التي يستهدفها الرجلان ليست وحدة الشمال والجنوب ولكن الوحدةالوطنية في كل السودان، شماله وجنوبه، وشرقه وغربه في دارفور وقد أسفرت المناقشة الثرة الغنية على اتفاق في المعاني والمباني وكانت نيات الجميع خالصة وإرادتهم صادقة. تقرير النمو إلا أنني وقد اطلعت على آخر تقارير البنك الدولي المعنون «تقرير النمو: استراتيجيات النمو المستدام والتنمية الشاملة (The growth report strategies and inclusive devlo pment) وما أوحي لي أن أعرض ما جاء به مساهماً في النقاش وهذا التقرير أصدرته لجنة خاصة مكونة من (19) عضواً مستقلة من الاقتصاديين والمسؤولين السياسيين من عدد من الدول النامية ونسَّق أعمال اللجنة الاقتصادي البارز مايكل سبنس، الحائز على جائزة نوبل في الاقتصاد سنة 2001م كما اشترك في اللجنة الاقتصادي المخضرم «روبرت سولو» الحاصل أيضاً على جائزة نوبل لتحليله لأسباب وآليات النمو الاقتصادي ويعتبر هذا التقرير نقلة نوعة وتحريراً لما يسمى «بتوافق واشنجطون» هذا التقرير لا يأبه بالنظريات ولكنه عملي ومرن وبرجماتي في سياسة النمو والتنمية دون وصفات جاهزة واجبة الإتباع كعادة البنك الدولي. وميزة هذا التقرير أنه نتيجة دراسة متعددة النظم استأنست بتجارب (13) دولة حققت نقلة نوعية في حياة شعوبها. النمو والتنمية غير أننا قبل أن نعرض «القواعد الخمسة» التي اعتمد عليها التقرير وأسماها خصائص مشتركة، علينا أن نفرق بين النمو والتنمية. فقد اشترط التقرير معدل نمو للناتج القومي لا يقل عن (7%) ولمدة لاتقل عن (25) عاماً. وأخذ التقرير هذا الشرط من دول مثل الصين واليابان كوريا وماليزيا والبرازيل وسنغافورة ودول أخرى ستصل الى هذا المعدل مثل الهند وفيتنام أي أن الوصول الى المعدل مفتوح الطريق لا مسدوده (دول النمور المعروفة). والنمو ليس هدفاً في حد ذاته ولكن وسيلة لتحقيق أهداف وطموحات الأفراد والمجتمعات المختلفة وهو ضرورة لهذا الإنجاز وإلا كيف نكافح فقر الأمم والتخفيف من عناء الناس ولايظهر التاريخ الإنساني أي سبيل لمكافحة الفقر غير هذا. ومن أجل هذا وصف الإنفاق الجيد في الميزانية بأنه عدو الفقر وقاتله وهوأيضاً ضرورة للتعليم والصحة المناسبين، ورغم كل هذا فإن من رأي التقرير أن معدل النمو وحده لا يكفي ولا يؤدي الى تحسين أحوال الناس جميعاً بل لابد من مساندة سياسية وتدابير أخرى تعزز من عدالة الحصول على الفرص في التعليم والتدريب والارتقاء بوسائل المعيشة دخلاً ومكانة في المجتمع وقد أشارت المتفردة د. بلقيس العشا في محاضرتها القيمة عن العلاقة بين التنمية وتغيُّر المناخ الى تغيُّر مفهوم التنمية منذ العام 1940 في العالم والى أن وصلت العدالة الاجتماعية والتنمية المستدامة فقد يخفض معدل النمو من حدة الفقر ولكنه وحده لايحقق عدالة توزيع الدخل والثروة بل في المراحل الأولى من النمو قد يترتب عليه تفاوت في الدخل بما في المجتمع من تميز وتباين بين الأفراد والقطاعات والأقاليم (مثلث حمدي)- ووفقاً للإستجابة للإصلاح من بعض الأقاليم الاقتصادية التي تعمل مقتضيات العمل على عزلها أو على الأقل تأخر استجابتها لارتفاع معدل النمو وملاحقة التنافس. قواعد الإصلاح الخمسة أولاً: إنفتاح الدول المتفوقة على الاقتصاد العالمي والانتفاع بتدفقات الاستثمار الأجنبي وزيادة الصادرات السلعية والخدمية والاستفادة من تطور العلوم والمعارف في الارتقاء بكفاءة العنصر البشري في هذه البلاد. ومن هذا أهمية كل الجهود لبناء المقدرة البشرية وخصوصاً اختيار التعليم أو على الأصح التعلُّم الصحيح والتدريب المناسب. ثانياً: تحقيق استقرار في الاقتصاد الكلي وخاصة فيما يتعلق بمعدلات التضخم وحسن الأداء المالي وقد أبلت الوزيرة عابدة المهدي بلاءً حسناً في توجيه الإنفاق التنموي والإنفاق غيرالبذخي والإنفاق ذي العائد المرشَّد. ثالثاً: التوجيه المستقبلي في السياسات الاقتصادية بمزيد من الاعتماد على معدلات عالية من الإدخار والاستثمار والاهتمام بالمجهودات الداخلية وحسن إدارتها. رابعاً: الاعتماد على آليات السوق «المنظمة» في توظيف الموارد وحسن توجيهها للاستخدام الأمثل لها والأكفأ لها. خامساً: وجود قيادة فاعلة وتطبيق قواعد الحكم الرشيد الملتزم بسياسات نافعة ودافعة للنمو وحريصة على شمول التنمية لأبناء المجتمع كافة دون استبعاد أو انحياز من خلال جهاز إداري كفء يقوم بأعبائه ومسؤولياته على إفضل وجه. ملاحظات عامة هذا التقرير يعتبر من أحسن تقارير البنك الدولي والمؤسسات الدولية المالية بصفة خاصة إلا أنني أوافق على الملاحظات التي قدمت للتعليق عليه وألخصها فيما يلي:- 1- رغم موضوعية التقرير ونجاعته إلا أنه لا توجد وصفة سحرية واحدة للتنمية تناسب كل المجتمعات، فلكل مجتمع محدداته ومقوماته وتراثه، فالنمو لا يحدث فجأة حيث أنه التزام طويل المدى لابد من قيادة مؤمنة بتطبيق استراتيجية للإصلاح بصبر ومثابرة ومرونة وهذا يتفق على ما يبشر به د. محجوب في تخطيطه الاستراتيجي. 2- الملاحظة الثانية، أن هذا المعدل (7%) لم يعرف في التاريخ مثله إلا نادراً وهو يتحقق الآن بفضل ما جدَّ بعد منتصف القرن العشرين من اندماج اقتصادي عالمي وعدم حجب الدول المتقدمة وسائلها التي لم تكن متاحة ومن ناحية أخرى إرسال الدول النامية البعوث والاستعانة بنقل التكنولوجيا عن طريق الاستثمار الأجنبي المباشر. إن الاستثمار بشقيه العام والخاص هو سبب النمو، ولكن لابد من أمرين:- أولاً: أن تتولى الدولة الاستثمار في البنية الأساسية، وثانياً: لابد من إدخار قومي نشط يسهم في هذا الاستثمار. وهنا نحذر من سياسة الخصخصة غير الواقعية إذ أن القطاع العام له دور كبير في النمو لا زال ضرورياً ولم تحقق أية دولة نمواً اقتصادياً يذكر دون استثمارات عامة في البنية الأساسية والتعليم والرعاية الصحية واستثمارات القطاع الخاص وقد تكون المشاركة بين القطاع الحكومي والقطاع الخاص في تمويل مشروعات البنية الأساسية والتعليم والصحة قد حسنت من فرص دخول الاستثمارات الخاصة في هذه المجالات ولكن تظل تحت رعاية وضمانات من الحكومة. استثمارات الحكومة يجب ألا تقل عن (5%) الى (7%) من الناتج المحلي في البنيات الأساسية. 3- الملاحظة الثالثة: التعليم الذي ينفع لا التعليم الذي يعتد بالكم فقط ولكن لابد من النوعية والمرونة والإبداع في التعليم. 4- الملاحظة الرابعة: لا ننصح الدولة بحماية مؤسسات فاشلة، وعليه يجب ألا يقف تدخل الدولة عند البنية الأساسية ولكن يمتد تدخلها الى إحداث تحول هيكلي في الاقتصاد على أن يكون هذا التحول مبنياً على قواعد المنافسة وخصوصاً سوق العمل لتنظيمه ومرونته وهيكلته. 5- الملاحظة الخامسة: لا تنجح أية استراتيجية للنمو دون التزام بعدالة الفرص المتاحة لكل مواطن وجالبة لرضاء الناس وعلى الحكومة تخفيض عدم العدالة في توزيع الدخول وخصوصاً تطبيق المساواة على المرأة. 6- الملاحظة السادسة: بعض الدول لا تسعى لحرية الأسواق ولكنها تتبع سياسات لزيادة الصادرات ودفع التنافسية والتدخل في سعر الصرف وحركة رؤوس الأموال هذه السياسات غير حسنة النية يجب أن تقف وتستعمل كالدواء عندما يكون ضرورياً. الملاحظة السابعة: الدول المتقدمة أهملت مواضيع البيئة والنمو البيئي وقد قابلت الدول النامية هذه بمعارضة ولكنها تسلك نفس الطريق ولم تتبع طرقاً أخرى، وقد خص التقرير دول إفريقيا تحت الصحراء بنصائح خاصة وكذلك الدول الصغيرة التي لا تملك شواطئ. المرض الهولندي وهو المرض الذي يصيب الدول الغنية بمواردها وريعها وبدلاً من أن تتخذ سياسة رشيدة في الإنفاق تهمل في توجيه عائد هذه الموارد السهلة الى تعظيم الموارد الصعبة، وفي السودان نخشى ألايتجه البترول الى تنمية الموارد الطبيعية وتصديرها. التحديات العالمية الجديدة وينتهي التقرير بالحديث عن التحديات العالمية الجديدة التغيرات المناخية، وتغيرات الأسعار النسبية والمشاكل السكانية والحوكمة أو السيادة على مستوى العالم، وطالما كتبنا عن التغيرات المناخية ووزر الدول المتقدمة ومسؤوليتها ولكن الجديد أن قمة الاتحاد الإفريقي الأخيرة في شرم الشيخ قررت إنشاء معهد لتغير المناخ ولا نرى مكاناً مناسباً لهذا العمل الصالح غير السودان، فهل نتقدم لضيافته ولنا من الخبراء ما تعرفه القارة الإفريقية بل العالم كله؟ والتحدي الثاني هو ارتفاع الأسعار الأولية وكل جهدنا في النهضة الزراعية وجهودنا في قمم شرم الشيخ وروما يبرر نهضتنا الزراعية ومسؤولياتنا في الأمن الغذائي. أما التحدي الثالث فيظهر في المشاكل الديمقراطية وقد سبقتنا مصر بمؤتمر السكان ولا زلنا ننتظر نتائج الإحصاءالسكاني عندنا، والتحدي الرابع وهو الحوكمة على مستوى العالم وهذا يتطلب القدرة والإبداع وتوظيف التكنولوجيا والعلم النافع في إنتاج سلع وخدمات يطلبها الناس في حدود المتوفر من موادر طبيعية وهذا هو تحدي القرن الواحد والعشرين الأكبر الذي يجب أن يقابل بنمو اقتصادي مطرد ومستمر وتشمل منافعه الناس جميعاً دون تمييز وبما يخفض الفقر. وهنا نختم هذه التأملات بما ختم به الأمين العام للتخطيط الاستراتيجي ندوة الخيار الوطني من استنفار العلماء والباحثين للإدلاء بدلائهم وبحوثهم ونكرر ما قاله المواطن السوداني رياك قاي ليس هناك مشكلة بين الجنوب والشمال ولكن المشكلة سودانية.