كلما طالعت صحيفة تتجول عيناي لا إراديا بحثا عن كلمة السودان، وأهمس سرا: يا ساتر .. يا رب أجد خبرا يشرح الصدر، ويبشر بالخير عن بلدي .. تتجول عيناي بحثا عن مثل ذلك الخبر فيرتد إلي البصر خاسئا وهو حسير .. لا أعني طائراتنا التي يبدو أنها تسير على طريق مدني - الخرطوم الجوي... ولا أعني نيفاشا وأبوجا وما ترتب عليهما من أعباء مرهقة، فمنذ التوقيع على الاتفاقيتين كنت مقتنعا بأنهما ملغومتان.. ولا أعني مساعد رئيس الجمهورية الذي قلبه مع علي وسيفه مع معاوية.. بل أعني الحال العام: الأكل والشرب والعلاج والمأوى.. أتمنى أن أسمع ان أقطاب الحكم والمعارضة تنادوا الى مائدة مستديرة او «مكعوجة» للتفاكر حول غول الغلاء وارتفاع أسعار كافة السلع في ظل تدني المداخيل وتفشي البطالة .. وحول «المستخبي» من تضخم اقتصادي لا مفر منه سيتفاقم بسبب أوضاع السوق العالمية وسوق ليبيا وسعد قشرة وغيرهما من أسواقنا المحلية حيث تعلو الأسعار ولا تهبط في غياب منطق يحكم حركتها. قبل نحو أسبوعين صدر تقرير من مركز للدراسات السياسية والإستراتيجية في الولاياتالمتحدة جعل السودان «تاني الطيش» في قائمة الدول الفاشلة.. لم تأت بعدنا سوى الصومال.. نستطيع ان نطعن في صحة التقرير وأن نشكك في نوايا من أصدروه طالما أنهم أمريكان، ولكن هناك تقرير آخر وضع السودان في صدارة الدول التي تمارس الفساد المائي .. التقرير صدر من منظمة الشفافية العالمية التي تتمتع بمصداقية واحترام كبيرين،.. ويقول التقرير في ما يقول، إن هناك (2,6) مليار ابن آدم في مختلف أنحاء العالم لا يجدون الماء الكافي والنظيف، وأن نحو مليوني طفل يموتون سنويا بسبب تلوث المياه، وأن الأطفال الذين يعانون من أمراض منشؤها تلوث المياه، تضيع عليهم (443) مليون ساعة دراسة سنويا! أوكي، ولكن اين وجه الفساد السوداني في كل ذلك.. قرأت التقرير من فوق الى تحت وبالعكس عدة مرات في صحف عربية ولم أجد إجابة عن السؤال: كيف يكون الفساد المائي؟ وهكذا جلست أتساءل: هل يقوم كبار المسؤولين عندنا بتجميد الماء في قوالب ثلجية وتهريبه الى الخارج حيث يضعونه في حسابات مصرفية سرية؟ هل سبب شح المياه في مدننا الكبرى هو أن هناك جهات أقامت شبكة مياه سرية تحت الأرض لبيع الماء لمناطق في ليبيا وتشاد؟ المهم لم أجد نصا صريحا في التقرير يوضح ما إذا كان المقصود بالفساد المائي نهب واختلاس مخصصات الماء في الميزانية. ورغم أنني لا أعرف يقينا كيف يكون الفساد المالي الذي اتُّهم السودان به، إلا أنني أعرف ان الماء في السودان «فاسد».. المياه في الحنفيات فاسدة، لأن صهاريج حفظها وتكريرها وتنقيتها فاسدة، ولأن المواسير التي تنقلها فاسدة.. الأجزاء «الراقية» من الخرطوم القديمة تشرب ماء يأتي عبر أنابيب تم تركيبها في عهد مملكة العبدلاب وسمعت من خبير أن الحفر يكشف ان تلك المواسير تآكلت منذ نحو (40) سنة وتحولت الى احفوريات fossils وبقي منها التجويف الذي يسمح بمرور المياه بعد أن جعل الصدأ وتراكم مواد كيميائية مختلفة حول الجسم الأصلي للمواسير ذلك التجويف قويا ومتماسكا.. ولا يقتصر فساد الماء على احتوائه للشوائب ولكن لكون الماء عندنا يحتاج الى دفعة ولكزة (رشوة) لا يقدر عليها سوى ميسوري الحال، وهكذا تتردد في بعض البيوت عبارة: يا بنت/ولد افتح السحَّاب .. ويقال ان دبلوماسيا خليجيا استأجر فيللا في الخرطوم وقال له مالك العقار: لو عاوز ضغط الموية يكون قوي، افتح السحاب،.. وكاد الدبلوماسي يلغي عقد الإيجار لأن السحاب في الخليج تعني «السوسته»