مضى زمن، كان مليئاً بالجدل، شهد يقين عدد من التربويين السودانيين، المشتغلين بالشأن التعليمي العام والعالي، أو الأكاديميين، من أهل المعرفة، أو المحسوبين عليها، بأنّ ثورة التعليم سوف تنطوي على مقدار من الإصلاحات، التي تُعنى بالتطوير والتحديث، إلى جانب التوسع والشمول. في المقابل، توفّر تفكير آخر يقول بإنّ بنية النظام التعليمي، كما رسّخت قوانينها ومعادلاتها وتوازناتها طيلة العقدين الماضيين، صارت أشدّ استعصاء من أن تحتمل درجة جدّية من الإصلاح، وأنّ أيّ تبدّل طارىء في تكوينها سوف يسفر عن تصدعات وانهيارات قد تذهب بسائر البنية التعليمية، وتنتهي إلى إنهيارها. اليوم، أو بالأحرى منذ إنعقاد المؤتمرات المشهودة، التي بحثت في إستراتيجية مستقبل التعليم العالي، وما اشتُهر منها كمؤتمر «جامعة المستقبل»، الذي بدلا من أن يركز على تصورات ومطلوبات جامعة المستقبل، تباكى كثير من المشاركين على جامعة الماضي، وأصل الشكوى كان قلة الإنفاق الحكومي على التعليم العام بمستوياته المختلفة كرافد تهيئة لازم للتعليم العالي، وقلة الرعاية، التي اشتكى منها حتى المسؤولين، معترفين بقلة الحيلة في الحاضر أمام كثافة المطلوب، فجاء الحديث عن جامعة المستقبل كتمنيات متفائلة جمعت في هيئة توصيات. ولا نكاد اليوم نعثر على صوت واحد يردّد أصداء التفكير التفاؤلي ذاك، إذا جاز الحديث هنا عن تفاؤل وتشاؤم، واستقرّ تدريجياً ما يشبه الإجماع على التفكير الثاني، وهو ضرورة الإهتمام بمطلوبات الحاضر، وترفيعه عن الحال الماضي. وأن يتمّ بلوغ هذا الإجماع بعد تأخّر، خير من تلك المراوحة في انتظار آتٍ لا يأتي، حتى إذا كان أحد أبرز المطلوبات يستأنف الحال ذاتها، التي كانت في الماضي ليبلغ بها مستوى الحاضر، لأننا بصدد استئناف مسائل من قبيل جامعة المستقبل. وللمرء أن يراهن، دون كبير تردّد، على مفردات خطاب يزيد في استعصاء البنية المعرفية، ويستزيد في إطراء فضائلها وصمودها وممانعتها، ويهجو المتشككين من معارضيها وضحاياها، سواء بسواء. وسيكون طريفاً، بمعنى الكوميديا السوداء جوهرياً، أن يسرد الإنسان سلسلة جديدة من المؤشرات القادمة، التي ستسقط المزيد من المتفائلين حول نظام ثورة التعليم العالي، أو تهبط بهم إلى مصافّ المتشائمين. ولعلّ المصادفة وحدها هي التي تسمح بأن السجال حول النجاح والإخفاق في ثورة التعليم العالي تتوزعه الخواطر، التي تجول بذهن الفرد الواحد أحيانا. وإذا كان من المشروع السجال حول المحتوى الملموس لهذه الثورة التعليمية، بالمعنى التعليمي التربوي، أو السياسي على وجه الدقة، ودون التقليل البتة من مآثر التوسع، فإنّ تجيير كل ذلك المحتوى لصالح عهد بعينه ليس مغالطة فحسب، بل هو مجافاة بليغة لمسيرة التراكم التاريخي لجهود علماء وتربويين كثر، رغم أن الفضل ينسب لمن تفضل به. وضمن المنطق ذاته، إذا صحّ أنّ ثورة التعليم العالي لا يمكن فصلها عن نتيجة لا توحي كثيراً بالظفر، أي نشر المعرفة العلمية المتقدمة بلسان عربي مبين، وإقامة مؤسسات صد تربوية سودانية فعلية في وجه الغزو الثقافي، الذي كان يزحف خلال المناهج الغربية القديمة، فإنّ الأصحّ التذكير بأنّ حصاد النظام القديم من العملية التعليمية بأسرها كان هو الذي أنتج التفكير التأصيلي الحديث، وهو في المحصلة العامة يواصل الارتداد إلى النظام القديم - الحديث، عبر كليات، ومعاهد، ومؤسسات تعليمية خاصة، صار بعض أولياء الأمور يفضلونها على الجامعات الحكومية العامة، لما تتيحه من خيارات يعتبرونها أكثر استجابة لحاجة سوق العمل المتعولم، مما يفاقم من مآزق هذه المؤسسات الحكومية، فضلاً عن ضغوطات الحصيلة، التي تبدو بائسة في نطاق المنافسات المرتبطة بشروط التوظيف في القطاعين العام والخاص. وإلى جانب هذه المصادفة التزامنية بين كسب الجامعات الخاصة والحكومية، ثمة حاجة لذلك التذكير اليومي بأنّ أولويات معظم الخطط والبرامج المستقبلية، التي تعتمدها مختلف مؤسسات التعليم العالي الخاصة، إنما تستأنف مجمل ما ثبت عجزه من أعراف ثورة التعليم العالي، لكنها تصبح أحياناً أشدّ تخلفا حين تذهب أبعد ممّا كانت الأجهزة التعليمية الرسمية ذاتها قد ذهبت إليه في سنوات التجريب الأولى. هنا، أيضاً، لن نعدم في مؤسسات التعليم العالي الحكومية من يعيد إنتاج الأزمة، ومن يواصل إطراءها وامتداح حكمتها السياسية، أو الفلسفية، والأيديولوجية أيضا، دون أن يتمكن من استعراض مبررات موضوعيةً لمميزاتها التفضيلية. وفي حين أنه لا يملك أحد عصا سحرية لتحقيق المعجزات من غير تخطيط وصرف ناجز على أولويات التحديث والتطوير، فإن نقص القادرين على التمام يشكك في أصل النوايا، وكأنّ العالم كان لا يطالب التقدم إلا باجتراح المعجزات، أو كأنّ في باب المعجزات وحدها التعهد بإلغاء أحكام التخلف المزمنة، على سبيل المثال. أليس عجيباً، في المقابل، أنّ يرى الإنسان أنّ المعجزة وحدها هي التي سوف تطوي صفحة الأخطاء التقديرية؟ أو تعيد تنظيم التعليم العالي بما يكفل بعض التحديث وبعض المواكبة في التدريس، والتنظيم الإداري، وثمة حاجة على التكرار على ضرورة الحريات الأكاديمية، وليس في هذه المطالب المتواضعة أمر خارق يحتاج إلى ساحر مسلّح بعصا سحرية؟ أو فيها شبهة قدح بجهد بذل يستصرخ الرؤية أن تبلغ به الهدف. ولقد كان واضحاً أن ثورة التعليم العالي تعيد صوغ الحياة التعليمية برمتها حين أغدق المديح على خيار التأصيل بوصفه المثال على نموذج إسلامي تمّ تطويره من خلال التجربة السودانية الخاصة، وتناسي ما يعرفه كلّ أكاديمي راشد: أنّ هذه الثورة التعليمية خُلقت بإنفعال سياسي منذ البدء، وغلت يد الدعم، وقل المدفوع، وانتظرت المؤسسات التعليمية التطوير طويلاً، وصارت لجان التعليم وكأنها ليست سوى حلقات تصفيق، وتهليل، ومباركة، ومبايعة. وإذا كان الجميع يتحدّثون عن ضرورة تطوير صيغ التعليم المختلفة، وبما يستجيب لحاجات التطوير، الذي يتطلبه واقعنا وحاجياته المتنامية، فإن ذات الضرورة تفرض على الجميع مسؤولية الإرتقاء النوعي، مستفيدة من حقيقة التوسع الكمي، الذي أتاحته ثورة التعليم العالي. لقد توسع التعليم العالي في السودان بشكل ملحوظ خلال العقدين الأخيرين حيث شهد، ليس فقط زيادة في عدد الجامعات والكليات، ولكن أيضاً زيادة كبيرة في أعداد الطلبة المقبولين لدرجة البكالوريوس والدراسات العليا، ونتيجة لذلك، فقد شهد قطاع التعليم العالي توسعاً ملحوظا على مستوى الجامعات القائمة حيث تم استحداث تخصصات وبرامج لدرجة البكالوريوس والدراسات العليا، كما تمت الموافقة على مستوى إنشاء عدد من الجامعات الخاصة الجديدة، في عدد من ولايات البلاد. وعدد آخر ينتظر المصادقة على التأسيس، أو الترفيع من مرحلة الكلية إلى مستوى الجامعة، بعد أن استوفت الإدارات المعنية كل الشروط المطلوبة، وبتحضيرات أفضل مما هو متاح في الجامعات القائمة الآن. وتبقى من الضروري وضع خطة شاملة لتطوير قطاع التعليم العالي والبحث العلمي للسنوات القادمة، من أجل الوصول إلى نظام تعليم يعد كوادر بشرية مؤهلة تلبي احتياجات المجتمع، وتتمتع بتنافسية عالية على المستويين الإقليمي والدولي. وقد تم الإتفاق، في أكثر من مؤتمر وحلقة نقاش، على الخطوط العريضة والمرتكزات الرئيسة لتلك الإستراتيجية، والمكونات الأساسية لسمات التعليم العالي. مما يلزم تشكيل فريق وطني لوضع التفاصيل المطلوبة لهذه الإستراتيجية، لتكون مرجعاً اجرائيا تلتزم مؤسسات التعليم العالي للعمل بمضمونها، على أن تغطي محاور الحاكمية والإدارة الجامعية، وأسس القبول، والاعتماد وضبط الجودة، والبحث العلمي والتطوير، والدراسات العليا، والتعليم الفني (التقني) والتكنولوجي، والتمويل، والبيئة الجامعية، وثبات السياسات. ولا بد هنا من إنشاء هيئة اعتماد وضمان جودة التعليم العالي في السودان. حيث يعتبر الاعتماد احدى الوسائل الأساسية لضمان جودة التعليم، وتحسين نوعيته. كما أن تطبيق نظام لضمان جودة التعليم العالي يعزز التزام المؤسسات التعليمية بنوعية التعليم وتقييم فعاليته وتحسينها، وأن تطبيق معايير الاعتماد وضمان الجودة على جميع مؤسسات التعليم العالي، بدون استثناء، يعتبر ضرورة حتمية لتحقيق التميز المنشود ورفع كفاءتها وتحسين أدائها، ليصدق فيها مقتضى التأصيل، الذي لا ينفي قيم الحداثة وروح العصر العلمية والمعرفية.