أتاح لي اجتماع في محكمة التحكيم الدائمة في لاهاي الحصول على نسخة من الاتفاق الذي فوضت بموجبه كل من حكومة السودان والحركة الشعبية المحكمة بالفصل في نزاع أبيي الحدودي ومدى تجاوز لجنة الخبراء للصلاحيات الممنوحة لها. وقد تضمن الاتفاق بنوداً تحتاج لتسليط الضوء إضافة للحاجة لتوضيح إجراءات التحكيم وخيارات الطرفين ومحاولة معرفة دوافع اختياراتهم. أولا، اختار الطرفان وفقا للمادة الأولى من الاتفاق القواعد الاختيارية للمحكمة الخاصة بالنزاعات بين طرفين احدهما دولة، وهي قواعد (الأونسيترال) التي وضعتها لجنة الأممالمتحدة للقانون الدولي في العام 1976، ويمثل حصر الاختيار في هذه القواعد دون غيرها استبعاداً لفرص الاستفادة من آليات المحكمة الأخرى لفض النزاعات مثل المساعي الحميدة وإرسال لجان تقصي حقائق لمعاينة المنطقة المتنازع عليها، بينما تتيح المادة (27) من تلك القواعد لهيئة التحكيم حق تعيين خبراء لتقديم تقرير كتابي حول بعض المسائل. وهو ما سيفتح الباب مرة أخرى لبعض النقاط التي تضمنها تقرير الخبراء الذي سبق ورفضته الحكومة السودانية. ثانياً بموجب البند السابع من الاتفاق أتفق الطرفان على أن تكون اللغة الإنجليزية اللغة الوحيدة لإجراءات التحكيم. وفي هذا تنازل من قبل الحكومة عن اللغة العربية حيث إنه وبموجب المادة (17) من القواعد يجوز اختيار أكثر من لغة لإجراءات التحكيم. وكان من الممكن أن يقوى موقف اختيار اللغة العربية كون اتفاقية نيفاشا التي يعد برتوكول أبيي جزءاً منها تنص على اعتبار اللغتين العربية والإنجليزية اللغتين الرسميتين للاتفاقية، هذا إضافة لكون اتفاقية نيفاشا نفسها وفقاً لاتفاق التحكيم قانون واجب التطبيق للفصل في القضية. ثالثاً، منح الطرفان هيئة التحكيم ابتداء من لحظة تشكيلها فترة ستة أشهر قابلة للتمديد لثلاثة أخرى للفصل في النزاع وإصدار حكمها النهائي، وهي فترة قصيرة جداً مقارنة بالقضايا المشابهة حيث يتراوح متوسطها ما بين عامين وثلاثة. رابعاً، اتفق الطرفان على تشكل هيئة التحكيم من (5) محكمين (ليس ثلاثة كما سبق إعلانه)، حيث يقوم كل طرف بتعيين أثنين ويقوم الأربعة مجتمعين باختيار الخامس الذي سيترأس الهيئة، وينص الاتفاق على أنه في حالة فشل الطرفين في تحديد مرشحيهم خلال شهر من استلام لائحة المحكمين الدوليين من الأمين العام للمحكمة أو فشلهم في الاتفاق على المحكم الخامس يقوم الأمين العام بتعيينهم. وهذا البند يخالف الممارسة المتبعة في المحكمة حيث يتفق الطرفان في العادة على تكليف الأمين العام بتحديد جهة ثالثة تكون مؤسسة قانونية دولية لتقوم بتعيين هيئة التحكيم ولم يتعارف على تكليف الأمين العام شخصيا بتعيين المحكمين مباشرة. ويشير هذا البند بوضوح على نية الطرفين تسريع إجراءات التحكيم واختصار الوقت. وربما يمكن إرجاع النقطتين الأخيرتين إلى قرب الانتخابات البرلمانية والرئاسية السودانية، وإذا صح هذا التحليل فهو دليل على نية الطرفين استخدام القرار كورقة سياسية لتحقيق مكاسب انتخابية. خامساً، يحق لأي من الطرفين وفقا للمواد (9 إلى 12) من القواعد السعي لعزل أي من المحكمين المعينين من قبل الطرف الآخر خلال (15) يوماً من تاريخ إخطاره بتعيين المحكم المعين أو(15) يوماً من لحظة علمه بوجود ظروف تثير شكوكاً لها ما يبررها حول استقلاليته أو حياده. والجدير بالذكر أن لائحة المحكمين الدوليين التابعة للمحكمة تضم أربعة محكمين سودانيين من كبار القانونيين هم: البروفيسور/ خلف الله الرشيد ومولانا/ حافظ الشيخ الزاكي ومولانا/ أبل الير- ود. عبد الرحمن إبراهيم الخليفة. وقد سمح انضمام السودان للمحكمة في ديسمبر 1966 لتطوير خبرات جيدة للقانونيين السودانيين كمحكمين دوليين في عدة قضايا مشابهة. سادساً، نصت الفقرة (15) من المادة الخامسة من الاتفاق على أن الحكم والقرارات تتخذ بالإجماع أو أغلبية المحكمين. وفي هذه الفقرة غموض وإبهام حيث لا معنى لوضع الإجماع والأغلبية معاً كآليتين لاتخاذ القرارات، فالمتعارف عليه اعتبار الأغلبية البسيطة (50%+1) آلية وحيدة لاتخاذ الحكم النهائي والقرارات المؤقتة التحفظية، وهو ما أشارت إليه المادة (31) من القواعد المذكورة. سابعاً وأخيراً، التزم الطرفان بموجب المادة (9) من الاتفاق على أن يكون قرار التحكيم نهائياً وملزماً للطرفين، كما التزما بالتنازل عن أي حق لهما باستخدام أية حصانة لمنع تنفيذ القرار، والتزما كذلك بأن تقوم مؤسسة الرئاسة السودانية بضمان التنفيذ الفوري للحكم النهائي. وبالرغم مما تم الاتفاق عليه يجوز لأي من الطرفين وفقاً للمادتين (35 و 36 ) من قواعد المحكمة أن يطلب من هيئة التحكيم تفسير القرار أو تصحيحه من الأخطاء الحسابية أو الكتابية أو المطبعية، ويعتبر في هذه الحالة التفسير أو التصحيح جزء من الحكم النهائي. وفي حالة استخدام هذا الحق من قبل الطرف الخاسر فإن ذلك سيحرم الطرف الآخر لبعض الوقت من استخدام القرار كورقة سياسية في الانتخابات الرئاسية والبرلمانية التي تبقى لها أقل من عام. ? لاهاي