ينتابني شعور قوي بأن مقالاتي في الآونة الأخيرة كان فيها إسراف في تناول قضايا القانون الدولي الجافة وذلك ربما لطبيعة المرحلة التي تمر بها بلادنا، ومراعاة مني لظروف الصائمين وخوفا من إصابتهم بعسر هضم فقد قررت أن أتناول شؤون القانون هذه المرة بصورة خفيفة تتناسب والشهر الكريم، وأتمنى ألا يتسبب المقال في إغضاب بعض زملاء المهنة. فقد ذكرني اهتمام وسائل الإعلام بالقانون الذي ارتفعت أسهمه في الآونة الأخيرة بسبب فعلة «مورينو أوكامبو» بحقبة مماثلة تلت سقوط الرئيس جعفر نميري، حيث نتج عن تلفزة محاكمات مدبري انقلاب مايو ومهربي الفلاشا رفع وعي المواطنين بالقانون مما نتج عنه ارتفاع درجات القبول بكلية القانون بجامعة الخرطوم مقارنة بكلية الاقتصاد وذلك لأول مرة منذ عدة أعوام . ولا بد لي من الإقرار بأن تلك المحاكمات وخاصة الأداء المتميز للأستاذ عبد العزيز شدو عليه رحمة الله أثرت بصورة مباشرة في اختياري لكلية القانون وتفضيلها عما سواها من الكليات الجامعية، وقد وجدت نفسي دون وعي مني في الفترة الأولى في الكلية أتقمص شخصية الأستاذ الفريدة وأتماهى مع طريقته الاستعراضية المتقنة في البحث عن الثغرات القانونية «loopholes Legal»، تلك ذكريات جميلة أحوجتني لمجهود جبار لإيجاد ترياق مضاد بهدف الخروج من نوستالجيا جلبابه المهني الفضفاض. أذكر في هذا الصدد جلسة لطيفة جمعتنا ذات مساء في صيف 1986 ونحن طلاب بالصف الأول (برالمة) بزميل في الصف الثالث كان يتميز بالنبوغ الأكاديمي وسحر الشخصية، وكان موضوع الجلسة مقومات نجاح القانوني في المجال العملي، حيث أجمع الحضور على أهمية معرفة القوانين والسوابق القضائية والفصاحة وإجادة اللغتين العربية والإنجليزية وقوة الشخصية والمنطق لمقارعة الحجة بالحجة. فقام ذلك الزميل (رد الله غربته) بنقل الحديث إلى زاوية مختلفة تماما حيث طالبنا بعدم إغفال أهمية شكل الشخص وتكوينه الجسماني ومظهره في نجاحه في المجال العملي القانوني، وأشار إلى أن العقلية السودانية لديها تصور نمطي للقانوني الناجح بحيث يكون في العادة إما ضخم الجسد أو جهوري الصوت أو أصلع الرأس، فقلت له ضاحكا يبدو أنني سأكون بمعاييرك هذه قانونياً ناجحاً جداً. فضحك الحضور، فرد جاداً بأن الإنجليز أول من أهتم بشكل القانوني ومظهره، حيث يجبرون القانونيين صغار السن على وضع باروكة شعر مستعار بيضاء حتى تعطي المتخاصمين والحضور الانطباع بوقار القانونيين فيثقوا في أداء المحامين وأحكام القضاة، وشدد على أن مظهر القانوني وزيه المكون من بدلة وربطة عنق وروب يعزز نفس الفهم. وبعد نقاش مستفيض وافق البعض على رأي الزميل وأستدل أحدهم بأهمية التكوين الجسماني بالآية القرآنية الكريمة التي جعلت من مقومات طالوت لأحقيته بالملك دون غيره تمتعه بضخامة الجسم إضافة لعلمه الغزير، حيث قال حق من قائل: ((وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكاً قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ)). ولا بد من الإشارة إلى أن تلك الجلسة التي مازجت بين الجد والهزل انحصرت في مواصفات القانوني الناجح ولم تتطرق لمواصفات القانونيات الناجحات وذلك خوفا من الوقوع في المحظور الذي وقع فيه الطفل الذي سأل أمه ماما: ليه بابا أصلع؟، فأجابته بأن الصلعة علامة من علامات الذكاء، فرد الطفل بعفوية علشان كده إنتي شعرك طويل؟ تذكرت تلك الجلسة الظريفة التي علقت في ذهني عند وقوع حادثة مشابهة لي في أواخر عام 1993 وأنا أعمل بمكتب الأستاذ الصديق عادل عبد الغني، وهو بالمناسبة قانوني ضليع وأصلع مما يجعله يجمع بين الحسنيين، فقد حضر للمكتب رجل وسأل عني بالاسم وكنت في المكتب المجاور، فسأله الأستاذ عادل عن مبتغاه هل شخصي أم عمل؟ فأكد بأنه عمل ولكن شدد على أنه لن يتكلم إلا معي شخصيا، فناداني الأستاذ عادل بكل استغراب خاصة وأنني محامي مبتدئ وهو صاحب المكتب مما يتطلب استماعه للقضية لاتخاذ قراره بقبولها من عدمه وما يترتب على ذلك من اتفاقات لاحقة في حالة قبوله لها. فحضرت ووجدت رجلاً ليس لي به سابق معرفة، وشرح لي أن قضيته تتلخص في أنه استلم شيكاً من شخص وأتضح أنه من غير رصيد، وتكمن المعضلة في أن مقابل الشيك كان عمله أجنبية وذلك في وقت كانت فيه الحكومة تعاقب بالإعدام على التعامل بالنقد الأجنبي، حيث نفذت العقوبة فعليا على ثلاثة أشخاص. الذي يهمنا في هذه القصة أن الأستاذ عادل سأل الرجل عن سر إصراره على شخصي الضعيف دون الغير، فرد الرجل بكل عفوية بأن أحد معارفه شاهدني في جلسة محكمة ما وقال له: (المحامي دا قادر على إرجاع حقك بالقانون وكان ما قدر بالقانون برجعو ليك بضراعو ساي)، فضحك الأستاذ عادل لغضبي من رد الرجل، وقال لي لا تفهم الأمر على أنه إساءة بل هو مدح بما يشبه الذم. لاهاي