ضحك الناس على أيام الإتحاد السوفيتي من نكتة تقول إن لصاً سطا على مكاتب وزارة الداخلية وسرق نتيجة الإنتخابات المقبلة.. فنتيجة الإنتخابات هناك، مثل نتيجة الإنتخابات هنا، معروفة مسبقاً. ومن الأشياء المعروفة مسبقاً كذلك، وليست بحاجة لعراف سياسي كى يتنبأ بها فشل جولة المفاوضات المقبلة بين حكومة السودان وحكومة جنوب السودان، خاصة بعد أن أصبحت الزيادات على المحروقات وإجراءات هيكلة الدولة التقشفية في حكم الأمر الواقع. وبين رفع الدعم عن المحروقات وفشل جولة المفاوضات المرتقبة أكثر من صلة قربى رغم إفتقاد الرابط بينهما للوهلة الأولى. فمن المعلوم أن كلا البلدين يمر بظروف اقتصادية بالغة التعقيد، فالجنوب قد خنق نفسه بيده وهو يغلق أنبوب النفط الذي يمثل أنبوب تغذيته الوحيد ، فأصبح الوضع الاقتصادي هناك على حافة الإنهيار بتلميح سلفا كير، وتصريح البنك الدولي. لكن دولة الجنوب، أو بالأحرى الحركة الشعبية الحاكمة ترى أن لا أمل في التوصل لسلام يدار بعقلية وحكومة المؤتمر الوطني كما ذهب إلى ذلك د. لوكا بيونق. وعليه فإن معركتهم هي إسقاط النظام في الخرطوم، وإستبداله بآخر من حلفائه الذين سيقدمون لدولة الجنوب فوق ما تطلب من تنازلات في القضايا الخلافية من حدود وديون ونفط وأبيي وأشياء أخرى أهم. وبالتالي فإن تكتيك الحركة هو إفشال المفاوضات لا إنجاحها في إنتظار إنهيار الحكومة في الخرطوم، ولعل الدليل الأبرز هو الخريطة التوسعية الإستفزازية التي لن يقبل بها المفاوضون السودانيون بالطبع، حتى وإن كانوا حلفاءهم من الجبهة الثورية. أخطر ما في إقرار الزيادات على أسعار المحروقات ليس هو إثقالها لكاهل المواطنين المثقل أصلاً، وإنما في إضعاف موقف المفاوض الحكومي، فهذه الإجراءات الاقتصادية وإن كانت صحيحة ، فقد اُختِير التوقيت الخطأ لإنفاذها. لأن إنفاذها في هذا التوقيت الحرج يرسل إشارات واضحة بصعوبة الوضع الاقتصادي في البلاد، ويرفع من سقف أمنيات الجنوب بخروج المواطنين للشارع ليقتلعوا نظام الإنقاذ من جذوره. ولذلك سيتمادى باقان أموم ودينق ألور ولوكا بيونق وغيرهم من المفاوضين الماكرين في رفع السقوف التفاوضية التي تقود في النهاية لإفشال الجولة، فرغم أنهم يواجهون ضغوطاً اقتصادية أشد إلا أنهم لم يقدموا على إجراءات اقتصادية تقشفية كما في الخرطوم، ربما لأن المواطن هناك لم يعتد على تقديم خدمات حتى يتأثر بوقفها، وربما لأن الجنوب بعد صرف رواتب الجيش الشعبي لا يخشى من مشكلة أخرى، ولكن ذلك في النهاية هو كرت تفاوضي مهم بالنسبة لهم لأنه يظهرهم في وضع اقتصادي أفضل من الشمال. من الآخر كده، كان على الحكومة أن لا تستعجل في زيادة أسعار المحروقات وغير ذلك من الإجراءات التقشفية لشهر أو شهرين لخدمة مفاوضيها في أديس حتى لا يذهبوا عزلاً من أوراق الضغط ، أما وقد حدث، فيجب الإستعداد للعقوبات التي ستنزل على البلدين بموجب القرار 2046 في حال لم يتم التوصل لسلام بينهما في غضون ثلاثة أشهر، فلا تلوح في الأفق بوادر حل لأي من القضايا الخلافية في ظل تعقيدات وتطورات الوضع الاقتصادي ، وعليه ربما كان عدم سفر الوفد التفاوضي من البداية إلى أديس أفيّد، لأن من شأنه توفير الدولارات التي تحتاجها الدولة، وتتلهف لها بإتخاذ مثل هذه الإجراءات، حتى وإن كان الثمن السياسي لذلك باهظاً جداً كما سيتضح.