دعوة هي الثانية من نوعها منذ يوليو 2011م، دعوة تحمل في طياتها احتفاء بموت وطن وتاريخ أمة، عجزت عن ادارة تناقضاتها فمكر بها القدر، وسخر من تفريطها الكثيرون.. تأكيدات القائم بالأعمال السوداني في الجنوب ، عن تقديم جوبا دعوة رئاسية للرئيس البشير للمشاركة في احتفالات مرور عام على الاستقلال كما يسميه ابناء الجنوب، أثارت موجة من السخرية اللاذعة في الخرطوم لغرابة الدعوة أو ربما جراءتها، بعدما تكشف خلال الفترة الماضية عن نية مبيتة متعددة الاطراف لاعتقال الرئيس البشير..الدعوة الاولى يومذاك جاءت الى الخرطوم يحملها رئيس وفد الجنوب بمفاوضات أديس ابابا باقان اموم، ليقدمها يداً بيد لرئيس الجمهورية موزعاً ابتساماته المطمئنة على شوارع الخرطوم، بيد أن الكثيرين حينها رفضوا قبول الدعوة وطالبوا البشير ابتعاث من ينوب عنه، في مقدمتهم أئمة المساجد ناصحين الرئيس البشير بعدم السفر الى أحدث عواصم العالم تحسباً لمكيدة تحيل القصر الرئاسي الى قضبان، وتجعل الجنوب يقع في المحظور، ليزيد من رصيد المخاوف آنذاك تحليلات المراقبين باعتبار أن شيوخ المساجد في شئون السياسة لا يفقهون.. دعوة الجنوب وقتها جاءت وذات الاجواء التي تعيشها جوبا حالياً ان لم تزد قسوة، فالجنوب في المرة الاولى شهد صراعاً بين تيارات الحركة الحاكمة هناك حيال زيارة الرئيس البشير الى عاصمته ، وتغلب وقتها التيار الذي يرى ضرورة الالتزام بالقرارات الدولية، في مقابل هزيمة تيار آخر يرى أن الزيارة الرئاسية للجنوب من شأنها وضع الكثير من النقاط فوق الحروف في ملف القضايا العالقة والملفات المعقدة التي استعصت على المفاوضين، ما يسهم في حلها ووضع العلاقات في مسارها الاستراتيجي الصحيح، محللو الخرطوم وقتها استبعدوا أن تجنح جوبا لعكس السلم بتصرف متهور مبررين استبعادهم بأن جوبا اذا أقدمت على التحرش بالبشير ستخرب معادلاتها السياسية في الداخل ومع السودان ولأن الاقدام على مثل هذه الخطوة من شأنه الاضرار بالجنوب قبل الشمال ، كما أن الجنائية لم يسبق لها أن أجبرت اية دولة على لعب دور الشرطي.يبدو الامر مختلفاً بشكل نسبي هذه المرة فالرئيس البشير لم يصدر عنه في المرة الاولى أي صوت لوم للجنوب بعد انكشاف مخططاته، واستعصمت الرئاسة بالصمت حالياً في مواجهة كثافة ارتفاع حواجب الاندهاش من الدعوة الجنوبية الاخيرة..كثيرون فسروا الامر بروتوكولياً بوجوب تقديم الدعوة ، مدللين على ذلك بأن الحرص الجنوبي كان سيبرز في توجيه الدعوة الى الرئاسة في الخرطوم عبر مبعوث خاص، ويرون أن المسألة برمتها تأتي في سياق رسم صورة سياسية حضارية ليس إلا ، في أعقاب قبول العاصمتين الجلوس لقمة مشتركة بهدف حل القضايا العالقة والدعوة تأتي في ذات السياق ضمن مجموعة المحفزات الايجابية لحل الخلافات..وبغض النظر عن ذهاب الرئيس البشير الى جوبا او ابتعاثه لمن ينوب عنه أو (تجاهل) الدعوة برمتها ، الا أن المحلل السياسي ايهاب محمد الحسن والمقرب من دوائر المعارضة قطع ل(الرأي العام)بأن تزامن الاحتفالات بمجموعة من العوامل يجعلها احتفالات ذات طابع خاص تحشد الكثيرين ربما فاق عدد من حضروا ابان الانفصال ، وأضاف :(الدول الافريقية جنوب خط الاستواء والمحاددة للجنوب كلها سوف تشارك بالاضافة لمجموعة أصدقاء تلك الدول ، بالاضافة لأثيوبيا ومصر ، كما أن المجتمع الدولي وفي مقدمته الولاياتالمتحدةالامريكية ستشارك وربما بأوباما بحكم اقتراب موعد الانتخابات هناك ما يجعله يغازل الشريحة الانتخابية المتعاطفة مع جوبا) ولم يستبعد الرجل مشاركة القوى السياسية من الخرطوم بحكم تقاربها السابق مع الحزب الحاكم جنوباً بالاضافة لتزامن الاحتفالات وموجة الاحتجاجات التي تشهدها الخرطوم ، ما يجعل جوبا محطة جوهرية للمعارضة لمخاطبة وشرح رؤيتها تجاه الوضع في الخرطوم ومحاولة الالتقاء بالمسئولين الامريكان ومحاولة تغيير الاستراتيجية الامريكية تجاه السودان لصالح اسقاط النظام بعيداً عن عين وإذن الرقيب ، وأضاف الحسن : ( الكثير من ممثلي مؤسسات المجتمع المدني ستحرص على المشاركة لما تتمتع به رؤيتها من حياد في شرح ابعاد الموقف في الخرطوم وما تتعرض له البلاد، بالاضافة لمشاركة قوى الهامش والحركات المسلحة بحكم العلاقات القديمة المتجددة ).معارضون أبدوا تخوفهم من استباق الحكومة لمشاركتهم في احتفالات الجنوب أو محاولة حظرهم ومنعهم من المشاركة حال قرروا المشاركة بدعوة أو بدونها، مؤكدين أن حديث الحكومة عن أن المعارضة هي التي طالبت الجيش الشعبي بضرب مواقع النفط في هجليج أو غيرها نوعاً من التصفية الاستباقية لأي اتصالات مع الجنوب.. في المقابل دوائر في الحزب الحاكم نهش الشك صدورها على خلفية مغادرة رئيس هيئة قوى الاجماع الوطني فاروق أبوعيسى الى القاهرة بدعوى الاستشفاء في ذات توقيت وصول نائب رئيس الحزب الاتحادي علي محمود حسنين لقاهرة المعز، معتبرين أن ثمة امرا يدبر في الخفاء ، خصوصاً وأن خطوط الطيران من القاهرة الى جوبا مفتوحة ما يتيح للرجلين المشاركة..(احتفالات هذا العام ستكون باذخة الترف) عبارة قال بها قيادي جنوبي معارض - فضل حجب اسمه - مبرراً رأيه في محاولة الحركة لتأكيد سطوتها وسيادة الدولة الجديدة من جهة، بالاضافة لتكذيب تقارير المنظمات الدولية حول الكوارث الانسانية والانهيار أو التدهور الاقتصادي هناك من جهة أخرى ، وأضاف :(لكن كل ذلك سيخلو من الاثارة والحماسة بعد مرور عام كامل ولا تزال جوبا ترزح تحت وطأة الفقر وغياب التنمية ، وربما كان لحديث نائب رئيس الحركة رياك مشار تأثيره السلبي على اجواء الاحتفالات).بعيداً عن حسابات جوبا قريباً من دهشة الخرطوم، فان كل (لمة) لا تكون فيها العاصمة الشمالية طرفاً ، تصبح مشروع مؤامرة عليها، خصوصاً اذا كان معظم الحضور من المتضررين بسبق الاصرار والترصد بفعل سياسات الحزب الحاكم، ما يجعل الزهد الرئاسي عن الحضور مبرراً بدعوى تأكيد غضبه من الفعلة الجنوبية في هجليج ، لكن الغياب لن يكون مبرراً بحال من الاحوال في عرف العلاقات الدولية والسياسة الخارجية التي لا تعترف بصديق أو عدو دائم ..حضور الخرطوم للاحتفالات، يرتبط ربما بالتفاعل مع الاجواء الايجابية مؤخراً على خلفية بداية التطبيق العملي لاتفاق أبيي بالاضافة لانصياع الطرفين بشكل ايجابي للقرار الاممي 2046 واعلانهما الالتزام به، بالاضافة لما عبر عنه رئيس الوساطة الافريقية أمبيكي عن أن الطرفين أكدا حرصهما للوصول لتسويات نهائية، ما يجعل ( لا يلدغ مؤمن من جحر مرتين) أبعد الحكم عن ذاكرة العاصمة الخرطوم حال قرر الرئيس البشير حضور الاحتفالات ، ما يعد أكبر الصفعات الرئاسية (للخدود) الدولية ، لما يعنيه التصرف من ثقة عالية بالنفس وبالاجراءات الملازمة للزيارة.. وهو أمر يستبعده معارضون ، ويراهنون على أن مشاركة البشير في الاحتفالات لها معنى ذو اتجاه واحد أن تسقط الجنائية في مقابل استقرار جوبا ككرت تعلم الخرطوم جيداً مدى (غلاوته) لامريكا واسرائيل والصين وكينيا ويوغندا وربما أثيوبيا، فهل تفعلها الخرطوم أم تكون غياباً لصالح أبنائها الغضبى؟!!.