الوظائف أيضا تنقرض، فمثلما انقرضت أجناس من الكائنات الحيّة كذلك انقرضت أجناس من الكائنات الوظيفيّة... ومَنْ لا يراقب ذلك أو لا يعترف بذلك فليفتّش عن المُسحّراتى، فإنْ وجده فليلقي القبض عليه لتقديمه لجهة أمنيّة أو مؤسّسة فلكلوريّة أو يسعى بعلاقاته الشخصيّة لضمّه لفرقة الفنون الشعبيّة! المسحّراتى هو ذلك الرجل الذي يتطوّع أو يمتهن أو يتولّى إيقاظ الناس فى الثلث الأخير من ليالي شهر رمضان ليدعوهم لتناول السحور لأنّ فى السحور بركة... كان ذلك فى زمن سَبَقَ حينما كان الناس ينامون، وحينما كانوا يتسحّرون، وحينما كان فى الزمان وقتٌ اسمه السحور! انقلبت تفاصيل النظام الحياتي فى ليل رمضان، فقد كان السحور زمناً ووقتاً، وعبادة وعادة رمضانيّة يتمسّك بها الناس تمسّكهم بمواعيد الإفطار... ومثلما كان للإفطار طلقة مدفع كان للسحور طلقة مدفع... كان ذلك لإيمان الصائمين والقائمين بأنّ فى السحور بركة، الآن لم تعد البركة سِوى اسم تجارى لسوبر ماركت، ومياه صحيّة معبّأة، ومدارس خاصة، وماركة بسكويت! لم يعد الناس ينامون فى ليل رمضان حتى يحتاجوا لمن يوقظهم... فالساعة البيولوجيّة للصائمين والصائمات تضبط نفسها فى رمضان على المسلسلات التلفزيونيّة... فصيام رمضان تتحرّك معه على التوازي وعلى التوالي متابعة المسلسلات فيصير ليله ونهاره شاشة مفتوحة يطارد فيها الصائمون مسلسلات وتطاردهم فيه مسلسلات أخرى، ولذلك انسحب المُسحّراتي من وظيفته وحَلَ مكانه المُسَلسلاتي! لا أعرف كيف اهتدت المسلسلات إلى شهر رمضان، وكيف اتفق المنتجون والمشاهدون والموزّعون على أنّه أنسب المواقيت لمتابعة الانتاج الدرامي التلفزيوني وكانت قبلها الدراما الإذاعيّة، ممّا حدا بصانعي الدراما ضبط ساعاتهم على شهر رمضان الذى يصفه نَصٌ قرآنى بأنّ فيه ليلة خير من ألف شهر، بينما يتبارى فيه المنتجون والمخرجون وكأنّ فيه مسلسلا خيرٌ من ألف مسلسل! رحمَ الله المُسحّراتي ووظيفته وأيّامه، ورحم الله الذين كانوا يستجيبون له فيستيقظون على ندائه وطَبْلَته، ورحمَ الله السحور ذاته وبركته، فلم يعد الصائمون فى زماننا هذا ينتظرون السحور والمسحّراتي، فهم لم يناموا أصلاً بفضل صاحب الوظيفة البديلة: المُسلسلاتي!!