قبل أن تطلق صافرة بداية المفاوضات السياسية والأمنية بين الحكومة والحركة الشعبية قطاع الشمال، قال ياسر عرمان الأمين العام للحركة وكبير مفاوضيها، أنه يستغرب من المحبة المفاجئة التي طفت على سطح المؤتمر الوطني للحركة الشعبية، ثم أردف بعبارة ماكرة للزميلة الأهرام اليوم: (إذا عرف السبب بطل العجب، ومن الحب ماقتل). وللحقيقة فإن التحول المفاجىء في موقف المؤتمر الوطني الذي ظل يرهن التفاوض مع الحركة (شمال) بإشتراطات لم يتحقق أي منها، يدعو للحيرة وإستغراب لا يزوال حتى بعد معرفة السبب، حيث كرس المؤتمر الوطني بموقفه الآخير إلى ما يشاع بأن سياسته تقوم على رسم خطوط حمراء ثم التراجع عن هذه الخطوط الحمراء بعد أن تتكاثف عليه الضغوط. ورغم إن ظاهر حديث عرمان عن محبة الوطني لهم قصد منه الإستفزاز و(المكاواة)، ويصب في غير مصلحة عرمان نفسه حيث تتغذى التيارات الرافضة للتفاوض داخل الحزب والحكومة بمثل هذه الأحاديث، إلا أنه كان دقيقاً في تشخيصه لحال الحزب الحاكم عندما قال إن المؤتمر الوطني يرفض المعقول ثم يأتي ويشتري بأغلى الثمن، وما هكذا تورد الإبل. والمعقول هنا ليس غير الإتفاق الذي وقعه د. نافع علي نافع مع الفريق مالك عقار في أديس، أو ما عرف بالإتفاق الإطاري، حيث كان المؤتمر الوطني وقتها في موقف مريح نسبياً مكنه من إنجاز ذلك الإتفاق الذي كان كافياً لنزع فتيل الحرب في جنوب كردفان في وقت وجيز. ولكنه أبدى تحفظات جوهرية عليه نقضت ما تم نسجه من تفاهمات، لم يكن لرافضي ذلك الإتفاق أى بديل آخر غير الحرب. وكانت الحرب، عبثية كما قال مكي على بلايل لصحف الخرطوم أمس، ولا تلوح لها نهاية منظورة في الأفق بعد إن إمتدت من جنوب كردفان إلى النيل الأزرق، وإلى مناطق أخرى فيما يبدو الأمر الذي تطلب التنازل عن إشتراطات الجلوس للتفاوض مع قطاع الشمال برعاية ذات الوسيط الأفريقى خاصة بعد تدخل مجلس الأمن وخروج البعض إلى الشارع إحتجاجاً على الأوضاع الإقتصادية. الآن جميع تلك التحفظات على الجلوس مع الحركة الشعبية قطاع الشمال تم بلعها دونما الحاجة لجرعة ماء، وبالتالي فإن من الطبيعي أن تعلو الأصوات المناهضة للجلوس معه من حيث المبدأ، أو من حيث التوقيت. وعلى الجميع أن يستعدوا لمفاوضات شبيهة بنيفاشا وتحت رعاية أممية هذه المرة بعد إستعصاء محاولة سحب الملف إلى الداخل. من الآخر، الوطني ليس في أحسن حالاته حتى ينجز إتفاقاً أفضل من الذي سبق مع قطاع الشمال، كما أن قطاع الشمال في وضع لا يحسد عليه سياسياً وأمنياً، ومع ذلك فأمام الطرفين فرصة سانحة للتفاوض بجدية بعيداً عن المخاوف والظنون السيئة، وإستعادة الثقة وتوفر الإرادة السياسية بينهما لإتفاق يضع حلاً للدماء السودانية العزيزة المسالة من الجانبين، فالبديل للإتفاق المحتمل، أى إتفاق مهما كانت عيوبه، هو الحرب.