أثناء مرافقتنا لرئيس الجمهورية في زيارته لولايات دارفور بعد اتهامات المحكمة الجنائية في يوليو من العام 2008م، أجريت حواراً فيما أذكر مع إلبرتو فيرنانديز القائم بالأعمال الأمريكي في السودان. فكرة ذلك الحوار كانت التعرف على الحيثيات الحقيقية لنكوص واشنطن من التطبيع مع الخرطوم، بعد طول وعود وشروط متحركة، ما أن تفي الخرطوم بها، حتى تفاجأها واشنطن بذريعة جديدة من قائمة مطالبها التي لا تنتهي.قلت للقائم بالأعمال الأمريكي وقتها: لماذا دائماً مطالبكم متحركة ، فأنتم اشترطتم لرفع العقوبات وتطبيع العلاقات مع الخرطوم في وقت سابق بمكافحة الإرهاب، والوصول لسلام مع الحركة في نيفاشا، ولما حدث ذلك، طالبتم بالوصول لحل في دارفور، وأوردت له الكثير من الأمثلة، بينما كان يسلك منعطفات لغوية للهروب من الإجابة المباشرة، وتحت ضغط السؤال وضع أسفله نصف إجابة عندما قال: (نحن أولوياتنا في السودان سياسية وإنسانية ولسنا مثل أصدقائنا الصينيين فهم أولوياتهم اقتصادية في السودان).وبعد وفاء السودان بما يليه من التزامات تجاه إتفاقية السلام الشامل بما في ذلك الاستفتاء والاعتراف بنتائجه بعد أن كان ذلك مطلباً أمريكياً لتطبيع العلاقات مع الخرطوم، تذرعت واشنطن بالأوضاع الانسانية في جنوب كردفان والنيل الأزرق، وستقفز إلى مطالبات أخرى في حال طي هذا الملف، فهي لم تصدُق مع الخرطوم باعتراف أندرو ناتسيوس الذي أعترف كذلك بأن واشنطن قد خسرت من العقوبات التي تفرضها على الخرطوم عندما تركتها للصين ودول أخرى لا تأبه بالعقوبات المفروضة.وبالأمس، حملت صحف الخرطوم خبراً عن إبقاء الخارجية الأمريكية السودان ضمن الدول الراعية للإرهاب إلى جانب سوريا وإيران، وهي ذات القائمة التي ظل قابعاً فيها منذ العام 1993م رغم اعتراف الخارجية الأمريكية نفسها بالتعاون السوداني في مجال مكافحة الارهاب.وفي صحف الخرطوم صبيحة أمس نفسها، لم تنسِ واشنطن هوايتها غير المحببة في وضع شروط جديدة للتطبيع مع الخرطوم وهي هذه المرة تسوية سلمية لكافة القضايا العالقة مع جوبا طبقاً لما صرح به القائم بالأعمال الأمريكي جوزيف استفاورد لدى لقائه برئيس البرلمان. قبل أن يؤكد أن لا نية لديهم في تغيير الحكومة في الخرطوم بالقوة.مشكلة واشنطن أنها غير جادة في التطبيع مع الخرطوم، وكل تصريحاتها في وقت سابق عن قرب التطبيع هي للاستهلاك ومحاولة لإغراء الخرطوم بالمزيد من الجزر دون أن تتمكن في الواقع من قضم واحدة منه. وإذا كان رفع العقوبات الأمريكية والتطبيع مع الخرطوم يتم بالنظر للواقع على الأرض، أو تحتكم إلى مصالح البلدين، لكان أنسب توقيت لرفع هذه العقوبات هذه الأيام، خاصة بعد أن قامت وزارة الخارجية تحت قيادة الوزير علي كرتي بجهود جبارة ، وتحرك بلباقة دبلوماسية لافتة في مساحات غير مسبوقة واستطاع الوصول لجهات نافذة ترسم بريشتها ملامح السياسة الخارجية الأمريكية.من الآخر ، عزيزي الوزير علي كرتي، لقد قمت و(أركان سِلمك) لا حربك، بما يلزم لإحداث إختراق في ملف العلاقات السودانية الأمريكية، وسلكتم الدروب المفضية للتطبيع، ولكن واشنطن تكذب ولا تتجمل، وتأبى إلا أن تنكص في كل مرة عن وعودها العرقوبية بسبب ضغط اللوبيات سافرة العداء للبلاد.