رحلة مخضبة بالدماء والوجع والكثير مما يؤسف له وعليه، والقاموس السياسي السوداني يضم مفردات جديدة لم تكن في أسوأ الكوابيس، رحلة كتبت سطورها الأولى أصابع أجنبية، قبل أن تتم سودنتها في الفترة الأخيرة، لتأخذ الاغتيالات في السياسة السودانية اللون الأحمر القاني ويمتزج به تاريخها، بعد أن ظلت حكراً على الاغتيال المعنوي فقط. فواجع الخرطوم تزايدت مؤخراً وجعلتها تلوذ بصمت القبور ألماً وربما احتساباً بعد اغتيال عبد الرحمن محمد عيسى معتمد محلية الواحة بولاية شمال دارفور داخل سوق كتم التي تبعد 80 كيلو من مدينة الفاشر عاصمة الولاية، مع سائقه الشخصي، لينجح الجناة فى الاستيلاء على عربة المعتمد ويلجأوا إلى معسكر كساب للنازحين بعد مطاردتهم من قبل الأجهزة الأمنية.. سبق ذلك حادث اغتيال ابراهيم محمد بلندية رئيس المجلس التشريعي لجنوب كردفان الذى هز الخرطوم بسيناريو أقرب للأفلام السينمائية ، لتنجح المحاولة الثانية بعد أن تزامنت الأولى مع الضربة الأولى على الولاية ونجا منها.. مراقبون اعتبروا رحلة الموت الأخيرة وعلو صوت الرصاص تدشينا مباشراً لخط الاغتيالات في السياسة السودانية، ويشير لانطلاق شرارة العنف السياسي في أوساط الناشطين سياسياً عبر الهامش بعد أن كان حصرا على ميادين العمل العسكري. ولا تزال محاولة اغتيال مكي بلايل رئيس حزب العدالة ماثلة للأذهان، بالاضافة لما تناقل وصنف كإشاعة عن محاولات اغتيال استهدفت شخص والي ولاية تشهد أوضاعاً أمنية غير مستقرة.. بينما يذهب آخرون الى أن الاغتيالات السياسية كانت حاضرة بشكل أو بآخر في المشهد السياسي السوداني، وإن تزايدت مؤخراً، فشهدت دارفور عمليات اغتيال تعددت الأطراف لكن الأهداف كانت واحدة ، وما صديق ميدوب إلا واحدا من الكثيرين فى ذاك السياق، لتنطلق الكثير من علامات الاستفهام حول ما اذا أصبحت الاغتيالات مرادفاً للنشاط السياسي بعد أن أضحى الخطاب السياسي غير قابل لإحداث أى تغيير في المشهد! . د. هشام محمد عثمان الخبير في القانون الدولي يرى أن الاغتيال السياسي ظل ظاهرة لا تعرفها شوارع الخرطوم التي اعتادت على فصل المواضيع بفضل الروح المدنية والوعي المبكر للمكونات الاجتماعية السودانية ، فتجد الاختلافات نهاراً والسمر ليلاً، وقال ل(الرأى العام) (كل ذلك بحكم أن السياسة نشاط يمارسه الكثيرون في ظل الأصل وهو الانتماء للأرض وللشعب وللمجتمع السوداني بمسلماته وقيمه التى لا يدخل فيها الاختلاف حد الدم أو التطرف والاستفزاز فالكل يدافع عن قناعاته في ظل احترام قناعات الآخرين، واعتاد السودانيون على التعايش مع الاختلاف). ربما ثمة ما يدعم تحليل الرجل للواقع السياسي الاجتماعي السوداني وتجد ما يعضدها واقعياً بعدم وجود رصيد سابق لعمليات الاغتيال في التاريخ السياسي للبلاد، بينما يذهب متشائمون الى أن غياب مثل تلك العمليات في التاريخ الوطني لا يعني أنه لن يحدث مستقبلاً ، ويرجعها البعض للتطرف فى العمل السياسي وغياب عمليات الحوار والجدل واستشراء حالة من اليأس السياسي لدى الأطراف المتسببة فيها. ويبدو أن عدم القدرة على قراءة خطورة الفعل ورد الطرف الآخر يحيل المشهد السياسي السوداني في سياق بروز حوادث الاغتيالات الى لوحة حالكة السواد محاصرة بالخطر طبقاً للتحليلات، وتترنح على شفا هاوية لا تبقي وتذر بالتالى يصبح المسرح السياسي بركة دماء كبيرة.. بينما لا يستبعد البعض أن يصبح الاغتيال ثقافة سياسية وواحدا من أدوات العمل السياسى نسبة لانفتاح القوى السياسية السودانية على الخارج وتحديداً الحركة الشعبية التى تستلهم مشاريعها من بيئة وواقع يختلف عن الواقع السودانى، مدللاً على محاولة الحركة الشعبية التماهي في نموذج المؤتمر الوطنى الجنوب أفريقى الذى يتزعمه نيلسون مانديلا، بيد أنه استدرك بقوله: (قيم الشارع السودانى وتصالحه وتساميه ، يجعل مثل تلك الأدوات في تصفية الخصوم ، أمراً سلبياً ولا يشكل إضافة للطرف القائم به، فحياة الإنسان أهم من أي سياسة وأكبر من أى اختلاف( ناشطون معارضون أعلنوا رفضهم لأسلوب الإغتيال ونوهوا إلى تزايد العنف السياسي في مناطق ضعف العمل المدني بالبلاد، وهو ما أكده د. مهدي دهب بقوله: (ضعف العمل المدني والسياسي في مناطق الهامش ذات الطبيعة القاسية يسهم بشكل أو بآخر في تفشي الظاهرة، لكن ذلك لا يعني انتشارها أو تحولها لأداة سياسية، والدليل أن طيلة ثلاثة وعشرين عاماً من عمر الحكومة الحالية لم تقم المعارضة بمثل ذلك السلوك، ما يعني أنها تزامنت ودخول الحركات المسلحة لساحة الفعل السياسي، وهو ما يضاعف المسئولية الملقاة على مؤسسات نزع السلاح والدمج وإعادة التأهيل، بالإضافة لمؤسسات المجتمع المدني السياسية وغير السياسية التى من شأنها زيادة الوعي بأهمية الحوار والتعامل المدني السلمي. وغض النظر عن تقطيبة البعض لدى سؤالهم عما اذا كانت الخرطوم شهدت سابقاً حوادث مماثلة، إلا أن الوقائع تقول بأنها كانت مسرحاً لعمليات كان أبرز المستهدفين فيها أجانب، فشهدت حادثة فندق أراك المشهورة التي راح ضحيتها مهدي الحكيم، واتهمت فيها جهات أجنبية، بالاضافة لحادثة فندق الاكربول، لتختفى الظاهرة الا من حوادث قتل وتصفية لا تمت بصلة للسياسة، حتى حادثة الرياض الأشهر التى راح ضحيتها الدبلوماسى الامريكى غرانفيل، لكن التاريخ يخلو من تصفية سوداني لسوداني.. ووقفت دوماً تلك المحاولات عند الاتهامات النظرية . محللون راهنوا في وقت سابق ل(الرأى العام) على أن يوفر الاستقطاب الحاد بين الحكومة والمعارضة من جهة، وطول عملية التفاوض مع الجنوب بسبب تعنت الأخير من جهة أخرى، بالاضافة للأوضاع في النيل الأزرق وجنوب كردفان ودارفور من جهة ثالثة، بيئة خصبة لدخول الاغتيالات لأدبيات العمل السياسي في البلاد، خاصة مع إرتفاع وتيرة حدة الخطاب السياسي والاستفزاز المتبادل في ظل توافر السلاح الذي تسعى الجهات المعنية لحصره وتجميعه ، وطبقاً لاحصائيات كشف عنها سابقاً سلاف الدين صالح رئيس مفوضية الدمج ونزع السلاح فإن عدد قطع السلاح في الشمال بلغ ثلاثة ملايين قطعة.. ربما ما يجعل المخاوف تشتعل إزاء المشهد في الخرطوم وانتشار حالات اغتيال سياسي كبقية الدول، جملة التغييرات التي حدثت خلال العقود الأخيرة وتمهد الطريق لتحول هذه السمة إلى ضدها، على خلفية اشتداد حدة الاستقطاب السياسي، وانتشار السلاح، والحراك السكاني الواسع عبر النزوح، فضلاً عن الأعداد الضخمة من المحاربين السابقين في بعض مناطق الشمال. الواقع المختلف للهامش سواء دارفور أو جنوب كردفان والنيل الازرق، وما تشهده من تفاعلات بين الوطني والحركات المسلحة من جهة وبين الحركة الشعبية من جهة أخرى، جعلها في عمق دائرة التركيز الاعلامي والسياسي، ما يجعل كل ما يحدث فيها محل تحليل وبحث وتمحيص وربما تقليد. بعيداً عن جدية الافتراضات وصلابة منطقها إزاء الواقع الماثل والحوادث المنتشرة، الا أن العديد من الدوائر تنظر للأمر بثقة كبيرة وتعتبر ان ما تم لا يرقى لأن يكون نوعاً من الاغتيال السياسى بقدر ما أنه صراع نفوذ على مناصب او تصفية حسابات محلية وقبلية او ربما انعكاس لتزايد وارتفاع وتيرة الجريمة المعتادة لا أقل ولا أكثر، ويذهبون الى ان محاولة تسييس كل عمليات الاغتيال التي تتم من شأنه ان ينقل الاشتعالات بوتائر أكبر، فالحكمة تقتضي - طبقاً لهم - حصر الظاهرة.