في الوقت الذي بدأت فيه الخرطوم تكفكف دموعها وتلملم شتات نفسها من هول الصدمات والفواجع، استعداداً لمرحلة التفاوض مع جوبا، برزت أبيي في المشهد سارقةً الأضواء من شرق أفريقيا مكان المفاوضات ومقرها إلى السودان حيث تفاعلات لا تحمد عقباها.جوبا أقدمت على (أم الكبائر) بمحاولات تبدو بريئة في السيطرة على أبيي مدنياً بتكوين (5) إداريات الأمر الذي فجّر موجة من الإستياء الشامل في أوساط القيادة السياسية بالخرطوم التي أصدرت توجيهاتها الى اللجنة المشتركة من الطرف السوداني بالتحرك إلى أبيي وممارسة أعمالها على الأرض، في ظل توقعات اكتنفت المراقبين بصدام ربما لن يكون محدوداً، خالقاً نوعاً من الأسئلة الدائرة حول مستقبل التفاوض بعد تفجّر ملف أبيي على هذا النحو.موقف الخرطوم الرسمي بدا مقيداً بترسانة من القيود القانونية الدولية والاتفاقيات السياسية، مدعوماً في الوقت ذاته بقرار الإدانة الأممي لخرق جوبا لسيناريو المفاوضات بخطوتها في أبيي، في المقابل أخذت المسيرية اكبر القبائل السودانية حرصاً على أبيي التي تنظر لأبيي من باب المقولة التاريخية (بدون الذاكرة لا توجد علاقة حقيقية مع المكان)، أخذت تطلق تحذيراتها من احتمالات انفجار الموقف، على لسان الناظر مختار بابو نمر ناظر عموم قبيلة المسيرية بسبب إقدام حكومة جوبا على تشكيل (5) إداريات لأبيي دون الرجوع أو الاتفاق مع الخرطوم، واستنكر خطوة الجنوب التي قال إنها ستخلق أزمة وربما حرباً حقيقية بين الدولتين. وطالب نمر في حديثه ل (الرأي العام)، الحكومة بموقف صلب تجاه قرار الجنوب بشأن الإداريات رغم أن المنطقة تتبع للشمال، ودعا الرئيس البشير إلى إرسال لجنة حقيقية بتشكيلٍ كاملٍ منه شخصياً دون انتظار أو مشورة مع حكومة الجنوب، وأشار إلى أن قبيلة المسيرية تنتظر ولا تريد أن تمضي دون توجيهات الحكومة، بالإضافة إلى أن الأمر كبير وبين دولتين.مراقبون وصفوا توقيت اتخاذ جوبا لخطوتها بالخبيث، واعتبروا أن الهدف منه إعادة ترتيب ملفات التفاوض لصالح أولوياتها بعد نجاح الخرطوم النسبي في فرض ملف الترتيبات الأمنية منذ الجولة السابقة والحصول على اتفاق نفطي وصفته قيادات الخرطوم (بالمرضي تماماً) بحسب بروفيسور غندور رئيس قطاع العلاقات الخارجية بالحزب الحاكم في حوار له مع (الراية القطرية) نشرته أمس الأول، ونقلت مقتطفاته (الرأي العام) أمس.أنصار تلك الرؤية يعضدون بأن الخطوة الجنوبية في ابيي جاءت مدعومة من القيادة الجنوبية كخط رسمي، وهو ما أكده تقرير مسؤول عمليات السلام أمام مجلس الأمن بإشارته الى توجيهات صادرة من د. لوكا بيونق الرئيس المشترك للجنة ابيي من الطرف الجنوبي لعناصر من حكومة جوبا بالانتقال من أقوك إلى منطقة أبيي للعمل بالمنطقة الأمر الذي اعتبره التقرير خرقاً واضحاً للاتفاق الموقّع بين الدولتين بشأن المنطقة.من جانبه، أكد د. محمد أحمد بابو نواي خبير مناطق التماس ل ( الرأي العام) أمس، أن قرار الجنوب بشأن تشكيل إداريات دون الرجوع إلى حكومة السودان سيلقي بظلاله على سير التفاوض الذي حدد له الثلاثين في أديس أبابا، وقال إن ما حدث سيؤدي إلى احتكاكات في المنطقة.تقرير مجلس الأمن وإدانته لخطوة جوبا، يرى المحلل السياسي مصطفى عبد الله أنه يمنح الخرطوم قوة دفع محاصرة بالشرعية حال اتخذت أي رد فعل، ويمنحها كذلك مساحة للمناورة حال قررت التصعيد في أبيي من خلال استغلال ذلك لفرض شروط أكبر خلال التفاوض مع جوبا في أغسطس المقبل.على النقيض تماماً، جاء موقف الخير الفهيم ممثل الخرطوم في اللجنة الإشرافية المشتركة لأبيي، ودعا الحكومة المركزية إلى عدم اتخاذ خطوات متسارعة تفضي إلى الزج بسيادة الدولة حول قضية أبيي، وأكد في الوقت ذاته استنكار لجنته للخطوة الآحادية من حكومة الجنوب بتحريك عناصرها لتولي مهام الإدارية، وفجر مفاجأة من العيار الثقيل برفضه ل(الرأي العام) أمس اعتبار أن ما حدث في أبيي من شأنه أن يؤثر في مسار المفاوضات بين الخرطوموجوبابأديس أبابا أواخر أغسطس الحالي. وقال: (بالأساس الملفات المطروحة في أديس أبابا غير مرتبطة بأبيي، التي يدور تناول ملفها عبر اللجنة المشتركة بالتفاوض في أبيي)، وأضاف: (حتى ما حدث لن يؤثر في لقاءات واجتماعات لجنة الإشراف ومن المفترض وما يجب أن يحدث هو مواصلة برنامجنا، خصوصاً وأن مجلس الأمن والإتحاد الأفريقي واليونسفا طالبوا جوبا بالتراجع عن الخطوة، ما يزيد من احتمالات الاستجابة).. بيد أن الفهيم امسك عن ذكر خطوة الخرطوم حال أصَرّت جوبا على إجراءاتها في ابيي مطالباً بعدم استباق الأحداث، مبدياً تفاؤلاً حيال ملف أبيي.محللون سياسيون وناشطون اعتبروا المعركة القادمة دبلوماسياً وسياسياً التي ستخوضها الخرطوم من أشرس المعارك، نسبةً لجملة من الإحداثيات في مقدمتها الظروف التي تعيشها الخرطوم نفسها بالإضافة لبروز ملف أبيي المفاجئ وكذلك فقد الخرطوم لحليف كملس زيناوي، حريص دون انحياز على تحقيق سلام وتسوية سلمية حقيقية وشاملة في جارته الخرطوم.بينما يذهب عبد الله الى أن ما يجعل المعركة أشرس وتتزايد معدلاتها انكشاف نوايا الإدارة الأمريكية حيال ملف التفاوض برمته على خلفية سعيها لإدانة الخرطوم في عدم الموافقة على خريطة امبيكي.وكانت واشنطن تحيك ما وصف بالمكيدة، ساخرةً من اطمئنان الخرطوم لتصريحات مسؤوليها الإيجابية بحرصها على بقاء النظام.. وأخذت ببرود قاتل داخل أروقة مجلس الأمن، تسعى لإدانة الخرطوم عبر بيان على خلفية عدم قبول السودان لخريطة امبيكي، بسبب تحفظه على ضم منطقة (الميل 14) للجنوب.وطبقاً لمندوب السودان الدائم بالأمم المتحدة دفع الله الحاج علي، فإنّ الوفد الأمريكي وخلال جلسة مجلس الأمن في التاسع من أغسطس كان قد عمم مسودة بيان رئاسي في مجملها ترحب بالتطور في مفاوضات أديس أبابا بالتوقيع على الاتفاق النفطي، وتَضَمّنت المسودة بعض الفقرات التي تشير الى عدم قبول السودان لخريطة امبيكي، التي تحفظت عليها الخرطوم بضم منطقة (الميل 14) للجنوب.. وأكد دفع الله أن الخرطوم نجحت في إقناع العديد من الدول بما فيها روسيا والصين، بموقفها ما حال دون صدور البيان. وأضاف: (التقيت برئيس مجلس الأمن الذي أكّد بعدم أهمية صدور بيان رئاسي ويجب انتظار نتائج المفاوضات وأنه يجب تشجيع الطرفين للتوصل لاتفاقيات مرضية)، وبحسب تقارير إعلامية فان المجلس قرر استئناف المفاوضات في الثلاثين من أغسطس الحالي.إذاً... ثمة سيناريوهات أقحمت نفسها في المشهد (السوداني - الجنوبي)، من شأنه مفاجئة الخرطوم التي تستعد دوماً (يوم الوقفة) وتعمل في دونية المتعالي وغطرسة المتواضع على حسم الأصوات المتحدثة عن الغباء في أروقة النظام السياسي، تزيد من معلات الهزائم كلما تأخّرت سيناريوهات الحلول التي تراها المعارضة السودانية واضحة وضوح الشمس.