إنه من دواعى الأسف أن يخرج علينا القادة الأمريكان (بفزورة) جديدة كلما ضاق بهم الحال هناك( سياسيا ) أو كلما اقترب أجل الانتخابات الرئاسية ليجعلوا من السودان أحد انجازاتهم التى ربما رفعت من اسهمهم فى سباق التنافس الرئاسى المحموم ، فتطبيع العلاقات بين الخرطوموواشنطن الذى ظلت تلوح به أمريكا ملّ منه الشعب السودانى قاطبة.. وهذه ليست المرة الأولى أو حتى العاشرة التى يطلق فيها قادة أمريكا وعودهم بالتطبيع ويشترطون أن يفعل السودان كذا وكذا حتى تُرفع عنه العقوبات الاقتصادية وتُزال عنه تهمة رعاية الإرهاب. فبالأمس أعلن المسئول فى وزارة الخزانة الأمريكية ومبعوث مساعدها للشئون الأفريقية جونا هيرلى أن واشنطن وضعت مبلغ (250) مليون دولار فى ميزانيتها للعام المقبل للمساهمة فى ديون السودان كدفعة أولى ولكنه اشترط أن يحل السودان قضاياه مع جنوب كردفان والنيل الأزرق ودارفور وهى ذات العصا التى ظل يلوح بها قادة أمريكا ما قبل توقيع اتفاقية نيفاشا. فذات الجزرة لوحت بها أمريكا مقابل أن يوافق السودان على توقيع اتفاقية السلام الشامل مع الجنوب فى العام 2005م . والتزم قادة السودان ووقعوا اتفاقا مع الجنوب خسر من بعده ما يقارب ربع مساحته بعد أن ذهب الجنوب (منفصلا) بحسب رغبة (الأمريكان وبنى صهيون) ، التزام حكومة السودان لم يشجع واشنطن أن توفي بوعدها تجاه الخرطوم، بل اغراها أن تضيق الخناق أكثر فأكثر على السودان بعد أن ظلت حليفا متآمرا مع الجنوب ضد الخرطوم، فظلت تغدق عليه الأموال ليحارب بها السودان ويعتدى على حدوده ويتوغل داخل أراضيه، بينما تتظاهر (واشنطن) أنها تسعى لأن يدوم السلام بين السودان والجنوب. المبلغ الزهيد الذى زينت أمريكا به وعدها هذه المرة، لا يمثل قطرة فى محيط مياه ديون السودان الخارجية التى بلغت ستة وثلاثين مليار دولار كان من المُؤمل ان لا يتحملها السودان وحده بل يجب أن يتقاسمه مع الجنوب ولكن الانحياز الغربي الواضح والفاضح جعل الشمال يشيل (الشيلة) بمفرده حتى يكون عبئا تساوم به أمريكا فى تطبيع علاقاتها مع السودان ،وديون السودان هذه ابلى السودان فيها بلاء حسنا حيث أنه اوفى بكل الالتزامات والاشتراطات التى وضعها كل من البنك الدولي والصندوق الدولي لإعفائه من الديون وفقا لمعايير المبادرة الدولية للدول المثقلة بالديون المسماة بالهيبك، فى اطار دعم الأممالمتحدة للدول العاجزة عن سداد الديون، ولكن لم يستفد السودان من الجهد الذى بذله ليكون من بين الدول التى يحق لها أن تعامل وفق مبادرة الهيبك لتظل الخرطوم مثقلة بديونها وهدفا للضغوطات الأمريكيةوالغربية التى اصبحت سيفا تشهره أمريكيا فى وجه السودان كيفما ارادت ووقت ما شاءت . ظل سيناريو الإغراء والترغيب فى تطبيع العلاقات مع أمريكا مستمرا بعد توقيع اتفاقية نيفاشا الى أن جاء أجل إجراء الاستفتاء ثم الاعتراف بدولة الجنوب وكلما أوفى السودان بشروط أمريكا اشهرت فى وجهه شرطا آخر وها هى اليوم تضيف قضية جنوب كردفان والنيل الأزرق الى الشروط السابقة فى خطوة تعقيدية لن ينتهى مداها طالما أن الدول الغربية وأمريكا نفسها تدعم استمرار الحرب بتلك المناطق . دعم ظهر جليا حينما واجه مسئولون أمريكيون القادة بدولة الجنوب بسرقة أموال طائلة وتوظيفها لأغراضهم الشخصية بدلا من استخدامها في بناء الدولة الوليدة، هذا بجانب أنها اعلنت أنها تملك أدلة دامغة تثبت اختلاس ما يربو عن الأربعة مليارات من الدولارات فى قضية الفساد المشهورة التى كشفتها إحدى الصحف الأمريكية، واكدت تورط مسؤولين بحكومة الجنوب فيها ، وعلى الرغم من توفر هذه المعلومات لدى الادارة الأمريكية إلا أنهم يغضون الطرف عنها ويظل الدعم مستمرا، بل اعلنت أمريكا أنها لا تفكر مطلقا فى تطبيق قانون حظر سفر المسئولين الكبار بالحركة الشعبية مما يشير إلى أنها تكيل بمكيالين تجاه التعاطى مع الشأن السوداني. فهى من جانب تغالى فى دعمها للجنوب ومن جانب آخر تضيق الخناق على السودان وتعيقه بمزيد من الضغوطات الاقتصادية والسياسية، وتكبله بكثير من القيود لحلحلة ديونه الخارجية. واشنطن التى تمارس بعض الغزل مع الخرطوم كلما ارادت أن تنجز هدفا فى مرمى مصالحها الخاصة، كانت قد اعلنت فى وقت سابق أنها حثت الصين ودولاً غربية على مساعدة السودان فى تأمين ثلاثة مليارات من الدولارات ضمن صفقة لاستئناف انتاج نفط الجنوب فى أعقاب توصل الخرطوم وجوبا إلى تفاهمات بشأن تصدير النفط عبر السودان ، هذا (الغزل الصريح) كان بغرض أن يقدم السودان مزيداً من التنازلات بشأن القيمة التى من المقرر أن تدفعها دولة الجنوب للسودان، وحينما لم يحدث ذلك ولم تجد ما ارادت اسفرت عن وجهها الحقيقي(الشائه) وتحول الغزل إلى تهديد ووعيد وربما تدخلات فى شأن إدارة الحكم فى السودان . تدخلات كشفت عنها بعض التسريبات الصحفية حينما اشترط القائم بالأعمال الأمريكى بالخرطوم تغيير النظام الحاكم فى السودان لتطبيع العلاقات بين واشنطنوالخرطوم، ما يشير إلى النوايا الأمريكية السيئة تجاه السودان.. وأن كل ما تلوح به أمريكا من اغراءات للتطبيع كان محض هراء ،أو للوصول إلى أهداف يخطط لها الغرب بدهاء ومكر ! عموما فإن اغراءات أمريكا أو إن شئت جزرتها صارت ماسخة لا طعم لها ولا لون، وإن اعلن المسئولون هناك أن استمرار البشير فى الحكم سيساعد على إنهاء الحرب فى مناطق النزاعات ، هذه التصريحات ليست مقنعة بل أنها بعيدة عن الواقع السياسي وراهن العلاقات مع الإدارة الأمريكية ، راهن كشفت عنه السياسة الأمريكية منذ أن جاء البشير إلى سدة الحكم، فتارة تتهم السودان برعايته الإرهاب وأخرى تفرض عليه عقوبات اقتصادية لا يزال يئن من وطأتها وتارة ثالثة تشعل الخلافات بين الشمال والجنوب حتى انشطر الأخير عن السودان ، كل ذلك بسبب أن البشير ينتمى إلى الاتجاه الإسلامى الذى يسعى الغرب إلى إجلائه عن العالم لتبقى العلمانية سيدة الحكم فى كل الدول .