حرضني على البوح مشهد سيدة تحمل صينية طعام بكفها الذي رفعته عاليًا بمحاذاة كتفها ليساعدها على تخفيف حملها تدلف عبر البوابة الرئيسة لأحد الوزارات... تجر أذيال ثوبها بمعية انكسار رسم لها الدرب وحزن احتكر سنوات تاريخها يفشيه الكتمان، بقيت أراقبها حتى وضعت حملها داخل أحد المكاتب المتسعة، لحظات وتوقفت المعاملات وأغلقت النوافذ إيذانًا ببدء وقت الفطور... حيَ على الفطور... حيَ على الفطور، ومن نافذة مكسورة تعلق بصري بالموظفين وقد تحلقوا حول الصينية بعد أن مارسوا لوجستية آداب الطعام من غسل اليدين ثم البسملة، شمروا عن السواعد وأسرجتْ نواصيهم قناديلها على المائدة متنوعة الأصناف، بعد مضي قرابة الأربعين دقيقة انتظم الموظفون في مكاتبهم وفتحت النوافذ لاستكمال إجراءات العمل، خلال ذلك الوقت الذي مر ببطء السلحفاة لم يتململ المراجعون ولم يعترضوا على ضياع الوقت فقد رافقوا الواقع إما قهرًا أو إيمانًا منهم برسالة صينية الفطور في مكاتب العمل، ومن جديد عادت السيدة تحمل صينيتها التي خف وزنها تسير بها برؤية مسجونة في الأحداق، مرت من أمامي وتطاول بصري ليشاهد أطلال ثورة الفول في الأطباق. الفطور حق من حقوقنا بشرًا، ولكن طريقة تناوله بهذه الطريقة النمطية الروتينية في المكاتب وخلال أوقات العمل وفي هذا الزمن الذي يتسم بالإيقاع السريع مستهجن، ولم أشاهده مطلقًا في الدول التي زرتها أو عشت بها، إن اعتلاء صينية الفطور لعرش المكاتب بعزة وكبرياء مؤشر واضح على النمطية والرتابة التي نعيشها فتشلنا وتعيق الإبداع؛ بل قد تئده قبل بلوغه سن الرشد. نحن نسأل الله دائمًا حسن الخاتمة والنجاة من النار، وننسى أن نسأله علمًا وفهمًا وعملاً وتطورًا وبنية تحتية وتكنولوجيا حديثة، ولتتعرف على نمطيتنا بوضوح تأمل الشارع الذي تسير به كل يوم تجد نفس الأشخاص يجلسون في نفس الأماكن ويقومون بنفس الحركات والإيماءات. تأملنا ونحن نسلم على بعضنا لنسأل نفس السؤال عشرات المرات كيفك؟ كيف الأحوال؟ كيف الأمور؟ كيف الأولاد؟ ونعيد ونزيد، ونجيب بنفس الطريقة الله يسلمك ? الله يبارك فيك ?الله يخليك- الله يسلمك، ونحن نعتقد أن التواضع كامن في البساطة ولا ندرِي أننا نخلط بين البساطة والسطحية فالبساطة أن تقوم بعمل عظيم دون تكلف والسطحية أن لا تقوم بأي عمل، ونحن نحب النقد بكل أنواعه ولكننا في الوقت ذاته ننظر للأفكار الجديدة نظرة المرتاب ونرمي أصحابها بالخروج عن الأعراف. النمطية داء حضاري يورث الكسل ويدعو إلى الاستسلام والتسليم ونحن(جند الله... جند الوطن) نثقب عنق الغيم ونحلم بغدٍ يحمل بين طياته البشرى.