جدل كثير يدور في الساحة هذه الإيام حول الدستور .. فهناك من يفكر في العودة للأسلوب القديم في كتابة الدستور الذي يعتمد على تشكيل لجنة محدودة العدد واسعة التمثيل لتعد مسودة تطرح على المجلس الوطني لإجازتها ... وهذا التفكير لا يستصحب التطورات العديدة التي طرأت على مفهوم الدستور وطريقة صياغته . فالدستور لم يعد مجموعة قواعد ونظم تحكم المؤسسات التشريعية والتنفيذية بل أصبح عقداً اجتماعياً يتوافق عليه أهل السودان كوسيلة لازالة أسباب الاحتقان الداخلي وتحقيق السلام المستدام ووضع الآليات والضوابط التي تضمن العدالة والانصاف لكافة أجزاء القطر مع تحقيق أيضاً التنمية المتوازنة المستدامة والاعتراف بدور المجتمع المدني في صناعة القرار وإستيعاب التطلعات الجهوية ووضع أسس حكم القانون وكفالة الحريات وبسط العدل والتداول السلمي للسلطة واعتماد الحوار وسيلة لحل المشاكل بديلاً للمواجهات المسلحة وغيرها . وعليه فإن الدستور بهذه المعاني هو آلية للمصالحة الوطنية و فض النزاعات سليماً و القضاء على خلافات الماضي. فذلكة تاريخية و أقدم هنا سريعاً و باختصار التطورات التي صاحبت سيادة السودان خلال تسعة و ثمانين سنة مع مجريات تطورات الدستور ، ان الحديث عن سيادة السودان ارتبط منذ تسعة و ثمانين سنة بقصة طويلة لابد ان أتصدى لها في نقاط مختصرة .. اولاً فقد أعلنت انجلترا استقلال مصر بتصريح إصدرته في 28/2/1923م و على اثر ابداء التصريح تكونت لجنة لتصنع الدستور الذي يحكم البلاد بمقتضاها ... و نصت المادة الثانية من هذا الدستور على تبعية السودان لمصر . و ان يوضع للسودان نظام ضاهي تسير الادارة بمقتضاه و لكن هذا لم ينفذ. و مضت الادارة البريطانية في السودان في تكوين المجلس الاستشاري لشمال السودان . و قد افتتحه الحاكم العام يوم 15/5/1944. و صرح الحاكم العام يومها ( نرى اليوم اول تغيير ملموس للامة السودانية .. ) فقد كانت هذه العبارة كما وصفتها الصحف البريطانية اخطر اشارة في تاريخ الحكم الثنائي بحيث انه لم يرد في اتفاقية الحكم الثنائي بين مصر و بريطانيا اية اشارة للذاتية السودانية و لم يستمر المجلس الاستشاري اكثر من ثلاث سنوات نسبة لأنه مفروض من أعلى و اعضاؤه اما موظفون او من نظار الادارة الاهلية او الذين لهم مصالح مع الحكومة . و لعل الانجليز رأوا ان يستجيبوا بطريقة ملتوية لمذكرة مؤتمر الخريجين إنشاء مجلس لا تزيد مهمته على الاستشارة و ابداء الرأي خاصة الاستشارة كانت قاصرة على المسائل الخاصة بالمديريات الشمالية و لم تشمل المديريات الجنوبية مما يدل على سلامة القصد .. و لكن في 3/11/1945م أدلى حاكم عام السودان بتصريح اكد فيه للمجلس الاستشاري ان الحكومة مصممة على ان تستشير السودانيين في مستقبل بلادهم و قد أدلى مستر أيدن رئيس وزراء بريطانيا بتصريح مماثل القاه في مجلس العموم البريطاني في مارس 1946 و ردده الحاكم العام مرة أخرى في 17/4/1946 في السودان . الجمعية التشريعية 1947 و نظرت هذه التصريحات بشأن استشارة السودانيين و تم تكوين الجمعية التشريعية بزعامة عبد الله بك خليل و تولى ايضاً وزارة الزراعة الا ان الجمعية قوبلت باحتجاجات و معارضات صارخة شعبية ( لن ندخلها و لو كانت مبرأة من كل عيب ) و قال اسماعيل الازهري قولته التاريخية عن الجمعية التشريعية لن ندخلها حتى ولو كانت مبرأة من كل عيب . دستور الحكم الذاتي 1951 كون الحاكم العام لجنة من معظم الاحزاب السودانية الجنوبية و المستقلين ومفوض لها وضع توصيات لدستور الحكم الذاتي وبعد ان تمت صياغة هذا الدستور صياغة قانونية أرسل لدولتي الحكم الثنائي في مايو 1952 لإبداء ملحوظاتهما عليه و التصديق به . وفود سودانية للخارج ثم سافرت وفود سودانية للخارج للتنوير حيث سافر الامام عبد الرحمن محمد أحمد المهدي الى انجلترا في اكتوبر 1952 ثم بعد ذلك لمصر كما ظل اسماعيل الازهري على اتصالات لجمع الشمل . خلاصة : قدم الوفد السوداني خطاباً للرئيس المصري آنذاك اللواء محمد نجيب في يوم الجمعة 23/10/1952م و قد كان متوافقاً و منسجماً مع الخط السوداني و نظير هذا جرت اول انتخابات في عام 1953 في ظل الحكم الذاتي و اكتسح الحزب الاتحادي معظم المقاعد و مكنته من تكوين اول حكومة وطنية في يناير 1954 برئاسة الازهري الذي تقلد ايضا منصب وزير للداخلية إلا ان حكومة الازهري واجهت مشاكل عويصة بدءاً بحوادث اول مارس 1954 . و ابحرت السفينة و اعلن الازهري في يوم 19/12/1955 استقلال السودان من داخل البرلمان و كانت هذه اكبر خطوة سياسية على نطاق تاريخ السودان و ايد هذا الاستقلاليون حزب الامة . و استمرت العواصف تجتاح حكومة الازهري فجرت حوادث جودة الشهيرة بعد الاستقلال بتسعة و اربعين يوماً اي في 19/2/1956 ثم سقطت حكومة الازهري بعدها في يوليو 1956 ثم تم فيه بعد ذلك تكوين حكومة السيدين المهدي و الميرغني ? حكومة مؤتلفة. الدستور وظلت الهيئة البرلمانية للحزبين المؤتلفين تعقد اجتماعات متصلة ليلاً بصالون عمارة الصحف الاستقلالية و كانت الخلافات مستمرة حول موضوعات تتعلق بالاسس الخاصة بالدستور و شخصي الضعيف ممثلاً للسودان الجديد استطاع ان يتسلل سراً داخل الاجتماع و يسجل المضابط و ينشرها موضوعاً رئيسياً في الصفحة الاولى الا انني كشفت اخيراً بواسطة مختار الاصم مدير دار حزب الامة آنذاك . بعد ذلك قام الاميرلاي عبد الله خليل رئيس الحكومة و وزير الدفاع بتسليم سدة الحكم للعسكر برئاسة الفريق ابراهيم عبود و جنرالاته العشرة و منهم في القيادة الاساسية اللواء احمد عبد الوهاب وزير الداخلية و الحكومات المحلية . و اللواء حسن بشير نصر وزير رئاسة مجلس الوزراء . ثورة اكتوبر 1964 حتى تفجرت ثورة اكتوبر 1964 بخلع العسكر من الحكم و تكوين حكومة مدنية برئاسة سر الختم الخليفة الا ان خلافات دبت على اثر اندفاع جبهة الهيئات وتوجيهاتها و تسلم رئاسة الحكومة الديمقراطية الصادق المهدي الا ان الخلافات استمرت مع عمه الهادي محمد أحمد المهدي و لم تصل الاحزاب لوفاق لوضع الدستور الدائم حتى حدث الانقلاب المايوي في 25/5/1969م بقيادة العقيد جعفر نميري و خلال النظام المايوي حدثت عدة محاولات لوضع الدستور . حتى تم وضع دستور يتماشى مع توجهات النظام و كان من حسناته توقيع اتفاقية اديس ابابا 1972 بشأن نظام الحكم الاداري في الجنوب إلا ان نميري نقض غزله بعد عشر سنوات في 1982 و اعلن قيام الاقاليم الثلاثة للجنوب مرة أخرى و اندلعت الحرب بين الشمال و الجنوب . انتفاضة ابريل 1985 أزالت الانتفاضة الشعبية في السادس من ابريل 1985 النظام المايوي ... و كونت حكومة مؤقتة لفترة عام برئاسة الفريق عبد الرحمن سوار الدهب . و في 1986 جرت انتخابات و قامت الديمقراطية الثالثة برئاسة الصادق المهدي الا انها لم تستمر اكثر من ثلاث سنوات حتى جاء الانقلاب العسكري في 30/6/1989م و هكذا ظلت البلاد عاجزة عن صناعة دستور مجمع عليه في البلاد . فبعد اتفاقية السلام الشامل التي انتجت الدستور الانتقالي 2005 و الذي توافقت عليه معظم القوى السياسية رغم انه اتى بارادة طرفين فقط من القوى السياسية المسيطرة عسكرياً و سياسياً حزب المؤتمر الوطني الحاكم و الحركة الشعبية لتحرير السودان .. الى ان جاء ذهاب جنوب السودان بعد ان اختار تقرير مصيره عبر الاستفتاء الذي بدأ التصويت عليه في 9 يناير 2011 وجاءت نتائجه مؤيدة لانفصال جنوب السودان عن الشمال .. مما فتح الباب مجدداً امام القوى السياسية في الشمال للرجوع للمربع الاول في عملية صناعة الدستور و كلياته من وجهة نظر بعض القوى السياسية .. و إعادة انتاج دستور متوافق عليه في قضايا الحكم الحقوق و ادارة الدولة و ترى بعض الاحزاب ان يكون الدستور مؤقتاً و يتم وضعه فيما بعد دائماً . المبادرة السودانية لصناعة الدستور نشأت في العام الماضي 2011 المبادرة السودانية لصناعة الدستور استجابة للواقع السوداني الذي يعبر عن ازمة وطنية شاملة من جميع مناحي الحياة السياسة و الاقتصادية و الاجتماعية هذه الازمة التي تتطلب تضافر جهود جميع المواطنين و الوطنيات للاسهام في ايجاد حلول بديلة للخروج من الازمة التي تتعقد حلقاتها يوماً بعد آخر خاصة مع ما افرزه جنوب السودان و تجدد دائرة الحرب بمنطقتي جنوب كردفان و النيل الازرق مع استمرار النزاع احياناً في مناطق اخرى من ما احدث انعدام الاستقرار و التنافر مع مجموعة من المنظمة المدنية و المؤسسات العلمية لصناعة الدستور . و عليه لابد من تجميع القوى السياسية و توافقها على الاتفاق على المبادئ الاساسية لصياغة الدستور للبلاد .. و لابد من مشاركات فعلية لقطاعات الشباب و المرأة و المزارعين و العمال و المثقفين و الطلاب و غيرهم و هذا واجبنا في الاعلام الجديد في صناعة الدستور .