وجاء رجلٌ من أقصى مُدنِ الغربةِ يسعى... شاخ شبابُه وهو في رحِمِها فاستوحى عزيمةَ العودةِ من تجاعيدٍ رَسَمتْ تفاصيلَ وجهِهِ... وفي اتكاءةٍ على خاصرةِ الحنينِ وجَّه نَبضَه صَوْبَ الوطنِ، وعاد حالماً بالهناءِ والسكينةِ وراحةِ البال، وبعد طقوس اللحظات الساخنة، وخَلَجَات الروحِ الهائمةِ، استقرّ في منزله الذي أثَّثَهُ بأناقةٍ وذوقٍ رفيعينِ بعد أن أنفق على بنائِه ثلاثةَ أرباعِ مدخراتِ غربتهِ، ونام الشهرَ الأولَ على أجنحةِ الهدوءِ ليستيقظَ على دهشةٍ أفقدتْهُ صوابَه، فقد أعلنتِ المواسير تمرُّدَها، ومقابض الأبواب والنوافذ ثورتَها، وتمديداتِ الماءِ احتجاجَها، ورخام المطبخِ صرخاتِه، وتوصيلاتِ الكهرُباءِ شجْبَها، والسباكةُ استغاثَتَها، كل ما في المنزل يتداعى وكأنه منزل في الأساطيرِ مصنوعٌ من الكيك! وهكذا دخل عالماً شاسعَ المدى اسمه الصيانةُ وشعارُه (المماطلةُ والتسويفُ ولا تجويدَ في العمل!) عندما روى ليَ هذا العابرُ قِصَّته، تنبهتُ إلى صيغةٍ تكررَتْ مؤخراً في خطاباتِ السيد/ علي عثمان محمد طه نائب رئيس الجمهورية وهي دعوتُه لتجويدِ العمل، نعم يا سيدي الشيخ، أَعترفُ.. نحن لا نجوّد العمل! كم منّا أحضرَ عاملاً لطلاءِ المنزل وبعد خلط الطلاء يغيبُ العاملُ ثم يظهرُ بعد عدةِ أيامٍ يقتاتُ من وعاءِ الحِجَج! ومن منّا من لا يستعينُ بعاملِ صيانةٍ مرةٍ على الأقل في الشهر! كل يعمل بالبركة وبالصواب الناقص، ويدعي العلم والمعرفة والاحترافية وهو يجرب ويتعلّم فيك (ويا صابت يا خابت!.) والمبالغ باهظةٌ حتى أَنَّ سعرَ قطعةِ الغيار يساوي أجرةَ تركيبِها، والويلُ لكَ إن ناقشْتَه أو اعترضتَ على شيءٍ فإذا به يتحدثُ معك بعنجهيةٍ وإن زدتَ العيارَ، يتركْ لكَ العمل ويمضي وأنت( دَبِّر حالك!.) تجويدُ العملِ وإتقانِه يحتاجُ إلى قناعةٍ بما نعمل، وانتماءٍ لما نَمتهِن، إلى تبنّيهِ حتى يصبحَ جزءاً لا يتجزأ مِنا، يحتاج التخصص فيه (فصاحب بالينِ كما قيل.. كذاب!) ولا يأتي التخصصُ إلا بزيادةِ العلمِ، والمعرفةِ، والدراسةِ، والبحثِ، والممارسةِ، والاستفادة من أصحاب الخبراتِ، وتعلُّمِ أساليبَ مبتكرةٍ، ويتطلب الإتقانُ الحماسَ الإيجابي المُتزِن، والالتزامَ، والصبرَ، والإحساسَ بالمسئوليةِ، والعملَ بدافع داخلي دونَ إجبارٍ أو إكراهٍ، ودون متابعةٍ أو مراقبةٍ إلا ما يستشعره العاملُ من رؤيةِ الله تعالى له، والاعترافِ بالخطأِ دونَ مكابرةٍ، والسعيَ لتصحيحه برويَّةٍ ونظرةٍ ثاقبة. بعد ذلك حتما سيأتي الرِّبحُ، ليس الرِّبحَ الماديَّ فحسبْ.. بل الرِّبحُ المعنويُّ متمثلاً في رضاءِ الله وما يلي ذلك من رضاءَ الذاتِ والثقةِ بها، والانطلاق من الدائرة الضيقة إلى العالم الشاسع الرَّحْبِ، والشعور بمتعةِ الإنجازِ، ونشوةِ التحقيقِ، ولذة النتيجة، وقال رسول الله: (إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه) فإلى متى نقبَعُ على مائدةِ الظلامِ والقناديل خارجاً مشرعة بالضوء؟!