من حق كل حكومة وضعتها الأقدار لتفاوض بالإنابة عن مصالحها أنْ ترتّب أولويات أهدافها، فليس هنالك تفاوض يحقق كل الأهداف... الانتصار في التفاوض ليس هو تحقيق كل الأهداف، ولكنْ تحقيق الهدف الأوّل... والهزيمة الحقيقية في التفاوض هي سقوط أوّل الأهداف في سبيل تحقيق آخر الأهداف! هَبَطَ على أرض الخرطوم قبل أيّام كبير المفاوضين لدولة جنوب السودان، هبط بلا وفد، فقد أتى لتذليل العقبات، لكنّه بالحقيقة جاء لإطلاق عددٍ من البالونات، وأطلقها فعليّاً في سماء الخرطوم من سفارة بلاده... والبالونات لا تُزيل عقبات! ميزانية السودان القادمة التي أُعلنت حافلة بكل مظاهر الصعوبة، ولذلك فإنّ تدفق نفط الجنوب في شرايين اقتصاد السودان كَفيلٌ بتذليل بعض الصعاب... لكنّ صعوبة الأداء الاقتصادي بدون عائدات بترول الجنوب لن تكون على السودان وحده، فستكون على جنوب السودان بشكلٍ أفدح وأفضح، والبنك الدولي شهد ويشهد على ذلك، هذا الضيق الاقتصادي للجنوب لا يظهر على الشاشة لأنّ معظم شعب الجنوب الشقيق خارج الدورة النقديّة... لذلك فإن الجنوب بحاجة لعائدات بتروله أكثر منّا نحن أصحاب جمارك لأنابيب! لو كانت العلاقة بين دولة انفصلت عن أُخرى تضبطها الرومانسيّة لكنّا في حالة عناق وقُبلات مستمرة مع كل مفاوض من الجنوب يأتي إلينا... لكنّ مفاوضيهم يأتون إلينا وهم يعلمون أنّ (خازوقاً) مدقوقاً في خاصرة السودان تحت رعايتهم المباشرة، وما لم يتفكّك هذا الخازوق فإنّ السودان ليس بحاجة إلى عائدات بترولهم لأنّه ببساطة سينفق هذه العائدات لعلاج الخازوق المدقوق في خصره! الأقدار حكمت على السودان بأنّ تحرره من الجوع لن يكون إلاّ بتحرره من الخوف... وإذا رأى البعض أنّ تحرر السودان من الجوع يأتي قبل تحرّره من الخوف فلن يذهب الجوع ولن يذهب الخوف... أمّا جارنا الجنوبي فهوَ متكيّف مع الجوع ومتكيّف مع الخوف قبل انفصاله وبعده! بالونات باقان التي أطلقها بأنّ عائدات السودان من بترول الجنوب تفوق التسعين مليوناً كل شهر لن يسيل لها لعابنا... فلُعابنا لزج لا يسيل إلا بفك الخازوق عن خاصرتنا!!