ثورة المارد الأفريقي.. هذا هو الوصف الأنسب لروح المداولات التي انتظمت ورشة المحكمة الجنائية وقضايا الحوكمة التي أنهت أعمالها بالعاصمة الأثيوبية أديس أبابا أمس.. فقد أسفر المشاركون الممثلون ل (35) دولة بينها ألمانيا وفرنسا والولاياتالمتحدةالأمريكية أسفروا عن وجه أكثر شراسة في محاكمة أداء الجنائية الدولية.. وبدا الأفارقة متواضعين على إحساس يقول إنّ هذه المحكمة صممت لقادة القارة السوداء وانها أصبحت أداة في يد الدول المتنفذة داخل مجلس الأمن لإدارة لعبة الأجندة السياسية والمطامع الاستعمارية في أفريقيا. أروع ما في مداولات هذه الورشة أنها ابتعدت عن الهتاف الذي ظل سمة بارزة في أدوات التعبير الأفريقي، وحاصرت أداء الجنائية من الناحية القانونية بعيداً عن التأثر بالأحداث العارضة التي سيطرت على انفعالات بلدان القارة خلال المرحلة المنصرمة. ومثلما فعل المجتمع الدولي وهو يطوع القانون لمصلحة السياسة، ها هم الأفارقة يحتشدون صوتاً واحداً لمحاكمة الجنائية من الناحية القانونية ليتوصّلوا إلى نتائج كانت تضيع وسط الهتاف تقول بأن هذه المحكمة لا تعدو أن تكون سوى آلية سياسية تستغل القانون وتتخذ من طريق العدالة الدولية مدخلاً لتنفيذ أجندة سياسية واستعمارية. في ورشة أديس أبابا انتبه الأفارقة إلى أن هذه المحكمة بقوانينها مصممة لقادتهم فقط وأن الغرب يعتبر الأفريقيين مثل الأطفال وأن عليه دائماً أن يحدثهم عن وصفات لإدارة حياتهم في الديمقراطية وحقوق الإنسان والحكم الراشد. الورشة وضعت خطوطاً تحت المنهج المستورد من الغرب لأفريقيا، وحللت هذا الأمر لتتوصّل الى تفكير بصوت مسموع يؤكد أن هذا الأمر مخجل ومجحف بحق قارة تأوي أكثر من مليار شخص بينهم (60%) من الشباب، وانه آن الأوان لانتزاع الحقوق والرفض بصوت مسموع لكل الوصفات المستوردة لأن العقليات الأفريقية قادرة على صياغة الواقع المثالي الذي يمكن أن يعلِّم الغربيين كثيراً من القيم الإنسانية التي تفتقدها حياتهم اليومية. غياب الإتحاد الأفريقي شكّل علامة استفهام كبيرة ظللت أجواء الورشة.. وذهبت التفسيرات بعيداً بشأن المغزى والمدلول السياسي لهذا التصرف الغريب من قبل مفوضية الإتحاد الأفريقي التي لا يبعد مقرها كثيراً عن مكان إقامة الورشة. هذا الغياب كان محفزاً لمداخلات كثير من المشاركين في الورشة إذا استمر لليوم الثاني بلا مبرر يُذكر، فاتحاً الباب أمام تعدد الروايات التي يمكن أن تكون سبباً في هذا الغياب. التحليل السياسي للغياب كان يربط الأمر بعدم قدرة المنظومة المعتمدة التي تدير شأن القارة على مواجهة موضوعات بمثل هذه الحساسية.. فمن المؤكد ان موضوع الورشة سيثير جدلاً دولياً واسعاً، إذ يعد أول خروج على الطاعة الدولية فيما يتعلق بالحوكمة القضائية ومفهوم العدالة، ومن تجمع لا يستهان به في القارة الأفريقية بمشاركة أوروبيين وممثل كذلك من الولاياتالمتحدةالأمريكية. حضور ممثل الإتحاد الأفريقي سيفرض عليه أن يأخذ ما بلغه من احتجاجات موثقة بأسانيد قانونية ويرفعها إلى الجهات الدولية، وهو أمر يتطلب قدرة على المواجهة تؤكد استقلالية القرار الأفريقي بعيداً عن الإملاءات الدولية. عَدَدٌ من المتداخلين في النقاش انتقدوا الغياب من قبل الإتحاد الأفريقي.. الأستاذ سيف الدين البشير رئيس تحرير صحيفة «ودان فيشن» قال إنه غير مقبول وغير مبرر، وإنه كان من واجبات الإتحاد الأفريقي أن يكون ممثلاً في الورشة حتى يدفع لقادته بمخرجاتها المهمة، وقال البشير ان جان بينج رئيس مفوضية الإتحاد الأفريقي السابق أبلغه بترتيبات لإنشاء محكمة جنائية أفريقية.. وأضاف: لكن لم يسمع أحد بهذا الاقتراح بعد انقضاء مدة بينج، ودعا لتسريع الخطى في هذا الاتجاه. د. بيتر اوبانقوا أستاذ القانون الدولي الإنساني بجامعة نيروبي قال إن الإتحاد الأفريقي والدول الأفريقية وكينيا أكدت رفضها لمذكرة المحكمة الجنائية الدولية بحق الرئيس عمر البشير واعتبرها تأكيداً لسياسة الغطرسة والعجرفة المتبعة تجاه أفريقيا، ودعا الدول الأفريقية لرفض أية توصية بتوجيه اتهام لرئيس دولة. وأكد أن كينيا لن توافق على مثول أي من مواطنيها أمام المحكمة الجنائية، وقال إن على أفريقيا مراجعة قانون روما الأساسي وسَد الثغرات التي تستغلها بعض الدول لتوجيه اداء المحكمة الجنائية الدولية. بروفيسور مالك اندياي مديرمركز الدراسات السياسية والإستراتيجية ودراسات المستقبل التابع لجامعة الشيخ انتا ديوب بالسنغال ومنظم ورشة الحوكمة والقضايا الدولية قال انّ اجتماع هذه الورشة كان نتاج «18» شهراً من العمل في ملف المحكمة الجنائية الدولية وإن على افريقيا الاستعداد للعب دور لم تتعوّد القيام به، وعلى الأفارقة التعرف على مسؤولياتهم تجاه العالم. عَدَدٌ من المشاركين اقترحوا أمس انسحاب الدول الأفريقية من المحكمة الجنائية الدولية، وإعادة بحث ميثاق روما بحيث تسد الثغرات التي تستغله لتحقيق الأجندة السياسية. آخرون مضوا الى الدعوة لربط الاستمرار في المحكمة الدولية بانضمام الدول كافة إليها بما فيها الولاياتالمتحدةالأمريكية، ودعوا إلى ضرورة تعديل نظام روما وإلغاء أمر التوقيف الصادر بحق الرئيس عمر البشير، وطالبوا الإتحاد الأفريقي بعدم التعاون مع المحكمة الجنائية الدولية قبل تحقق هذه الإشتراطات المهمة، ولم يمنع الحديث عن مقاطعة المحكمة الجنائية المتحدثين من مطالبة الدول الأفريقية بتبني نظام عدالة وطني فاعل يفي بمتطلبات الشعوب الأفريقية. وكان راجحاً خلال المداولات الاتجاه لمقاطعة المحكمة الجنائية والانسحاب منها، خاصةً وانّ تعديل نظام روما يتطلب مصادقة ثلثي الجمعية العامة للأمم المتحدة وهو أمر لا يسهل تحققه. ومضى متبنو هذا الاقتراح إلى تعزيز وجهة نظرهم بالقول: إن الانسحاب من المحكمة سيؤدي إلى مراجعة ميثاق روما وإلغاء أمر التوقيف الصادر بحق البشير. ودفع المتداخلون بالعديد من التوصيات التي تَنتقد عدم انضمام الدول التي تطارد الزعماء الأفارقة للمحكمة الجنائية الدولية الأمر الذي يشير إلى وجود مخططات وأجندة تعمل هذه الدول على تحقيقها اعتماداً باستغلال مبدأ العدالة الدولية. ووجدت وسائل الإعلام الأفريقية حظها من الانتقاد وبعضها يروّج الى مواقف يتبناها الغرب، وأشار صحفي سنغالي الى ما ظلت تبثه وكالة الأنباء الفرنسية من تقارير تمهد بها الى تحرك المحكمة الجنائية الدولية، وأضاف أن الوكالة ظلت تروّج الى أنّ العرب المسلمين في دارفور يقتلون مواطنيهم الأفارقة، وقال الصحفي بأسي شديد إنه كتب مقالاً ينتقد هذه الأمر، لكنه فوجئ حين زار دارفور بأن هذه التقارير لم تكن صادقة وبدأ يتساءل: أين المسلمون العرب وأين الأفارقة..؟ كل الناس سحنتها واحدة وأضاف: لونهم يشبه لوني، وقال إنه التقى الرئيس عمر البشير وسأله خلال مؤتمر صحفي مَن يقتل مَن، وأبلغه بمشاهداته في دارفور، ونبّه إلى ضرورة أن يأخذ الإعلام الأفريقي المبادرة ولا يتعامل مع ما تبثه الآلة الإعلامية الغربية كأنه أمرٌ مُقدسٌ. وكانت الورشة التي أنهت أعمالها أمس بحثت على جزئين ورقة بعنوان: (المحكمة الجنائية الدولية والعدالة) رأسها البروف جوزيف شليليغي من جامعة بريتوريا بجنوب أفريقيا وقدمها الأستاذ أمادو عبدول سو من جامعة الشيخ انتا ديوب بالسنغال، وقد كان المقرر د. داريل بو من جامعة لنكولن بنسلفانيا بالولاياتالمتحدةالأمريكية، وقدم السير جيفري نايس من إنجلترا ورقة بعنوان: (حالات المحكمة الجنائية الدولية ومصداقية الادعاء وشفافية المحكمة)، وناقش الورقة أساتذة من كوت ديفوار والجابون، وبحثت الورشة ورقة عن حالات أمام المحكمة الجنائية قدمها إسحق يعقوب ندياي نائب رئيس المجلس الدستوري بالسنغال وتناولت الورشة ورقة حول المحكمة الجنائية الدولية وعدم الاستقرار والإفلات من العقاب. واحتفلت الورشة بإصدار توصيات ربما تدشن وعيا أفريقيا جديدا في التعامل مع المحكمة الجنائية الدولية، فالأصوات التى اعلنت من أهمية التعامل الجاد مع وصفات الغرب للعدالة سيكون لها تأثير بالغ في المنابر الدولية، خاصةً وانّ المداخل التى اعتمدت لمحاكمة تجربة الجنائية كانت قانونية واحترافية خالية من ضجيج السياسة وهتاف السياسيين. ومن المؤكد أن المثالب التي حشدها القانونيون في تعريتهم لتجربة المحكمة الجنائية الدولية ستسفر عن زلزلة كبيرة في مفاهيم العدالة الدولية التي تم توظيفها بسوء أخلاق بائن في تحقيق الأجندة السياسية للدول المتنفذة داخل مجلس الأمن. لقد كان حرياً بالأفارقة أن يجتمعوا في مثل هذه التظاهرة القانونية الاحترافية آخذين في الإعتبار ضعف تأثير أفريقيا على القرار الدولي وتأثرها بالعواقب الضارة الناجمة عن هذا التراجع الأمر الذي يستدعي مراجعة شاملة لاستهداف القارة بتسييس العدالة الدولية. ومما يمنح هذا الجهد مصداقية عالية أن عددا من الأوروبيين والأمريكيين شاطروا الأفارقة آراءهم بضرورة محاكمة المحكمة الجنائية وأصدروا أحكاماً واقعية جعلت من الجنائية أداةً لتحقيق المطامع السياسية في أفريقيا، ذلك أنها وصفة غربية مصممة لاستهداف الأفارقة دون سواهم.. فكانت الدعوات المتكررة لإصلاح ميثاق روما وربط استمرار الدول الأفريقية بانضمام الدول كافة وعلى رأسها الولاياتالمتحدةالأمريكية للمحكمة الجنائية الدولية. الحراك الأفريقي في مضمار فضح أجندة المحكمة الدولية سيكون له ما بعده، وربما يسهم - إذا استمرت هذه الأصوات بذات الوتيرة - في خلخلة منظومة ازدواجية المعايير الدولية في الحوكمة القضائية وإنهاء استغلال العدالة لتحقيق الأجندة السياسية في أفريقيا.