التشكيكات الخجولة من قِبل غير المعنيين تماماً بملف اتفاقيات التعاون مع الجنوب على حديث باقان أموم بشأن الإتفاق على ضخ النفط في غضون ثلاثة أشهر، أعادت للأذهان حديث البعض عن أن الحكومة دائماً ما ترسم لنفسها خطوطا حمراء في البداية، ثم تتراجع فيما بعد عن تلك الخطوط المتحركة دون إرسال إشارات ضوئية تفيد بتغيّر مسارها.. فالكبار في الخرطوم، وتحديداً كبير المفاوضين إدريس عبد القادر مارس صمتاً من الصنف غير البليغ فيما يبدو وهم يستمعون لتصريحات باقان أموم في اليومين الماضيين عن الاتفاق على إستئناف ضخ النفط في غضون ثلاثة أسابيع.. ثلاثة أسابيع فقط دون أن يتجاسر أحدهم ليقول كيف تم ذلك في الواقع؟، وهل يعني ذلك بالضرورة حسم الملف الأمني في تلك الفترة المشار إليها، أم أن الحكومة صرفت النظر عن شرطها القديم بضرورة فك الارتباط أولاً بين جوبا والجيش الشعبي - قطاع الشمال قبل فتح (البلوفة) لضخ النفط في الأنابيب التي طَالها الصدأ. إعلان باقان يوم الأحد الماضي من داخل سفارة بلاده بضاحية الرياض استئناف ضخ بترول جنوب السودان في غضون الأسابيع الثلاثة المقبلة، وحديثه عن أن أول سفينة لشحن النفط ستكون في نهاية هذا الشهر، طرحت تساؤلات عديدة في الواقع عن هذا الإعلان من طرف واحد، فقد كان من المناسب ربما أن يتم إعلان مثل هذا الاتفاق الكبير في مؤتمر صحفي مشترك بين باقان أموم كبير مفاوضي دولة الجنوب وإدريس عبد القادر كبير المفاوضين السودانيين، أو على الأقل بيان مشترك في حال تعذر المؤتمر الصحفي، أما أن يعلن مثل هذا الاتفاق هكذا من طرف واحد، فإنّ هذا ما لا يبعث على الإطمئنان ويفتح نوافذ التكهنات على أكثر من احتمال. من ذلك، إنّ باقان أراد إرسال رسائل للخارج مفادها حرص دولة الجنوب على إنفاذ الاتفاقيات الموقعة مع الخرطوم وفي مقدمة ذلك اتفاق النفط بالطبع ليعكس جدية ربما كانت مزعومة من جانبهم ويحرج الخرطوم التي ستدير ظهرها - على الأرجح - لإنفاذ أي اتفاق لا يخاطب شواغلها الأمنية ويسهم في إسكات مصادر النيران التي تطلق من جهة الجنوب، فلا يعقل أن تستأنف حركة التجارة وضخ النفط بين البلدين بينما الحدود مشتعلة في الواقع. لما يربو عن الساعتين تحدث باقان عن زيارته للخرطوم التي وصفها تارة بالمثمرة، وأخرى بالناجحة وبالإيجابية في بعض الأحيان. وقال إنه قدم دعوة من سلفا كير للرئيس البشير لزيارة الجنوب في أي وقت، وبلغة مغسولة قال باقان (تمنى سلفا كير الشفاء للرئيس البشير، وأكد الالتزام الكامل والأمين للتنفيذ الكامل للاتفاقية وأبدى استعداده الكامل لبناء علاقات جيدة وعلاقات سلام وتعاون إستراتيجي لمصلحة شعبي البلدين لتحقيق التنمية والحياة الكريمة). وفي لغة بدت مختلفة نوعاً ما، أعرب باقان عن سعادته بنتائج اجتماعاته مع كبير المفاوضين إدريس عبد القادر والفريق أول عبد الرحيم محمد حسين وزير الدفاع حيث تمّت مناقشة أجندة الآلية المشتركة السياسية والأمنية، ومع د. نافع علي نافع الذي ناقش معه العلاقات الثنائية بين حزبي الحركة الشعبية لتحرير السودان والمؤتمر الوطني، وقال: تناولنا الإطار والرؤى السياسية المساعدة للآليات المكونة لتنفيذ اتفاقية التعاون بين البلدين، كما تفاكرنا على خلق إطار سياسي إستراتيجي لبناء علاقات إستراتيجية وبناء علاقات تعاون لنعبر بها مسار العلاقات التي شابها التوترات في الفترات الماضية، كما قمنا بمناقشة المناهج الضرورية في مجال العمل السياسي والدبلوماسي لتطوير العلاقة بهدف تحقيق المصالح المشتركة يتماشى مع الواقع الجديد بعد ان اصبحنا دولتين تسهمان في تحقيق السلام والأمن والاستقرار لتحقيق حياة أفضل واستخدام أمثل للموارد الطبيعية والبشرية. خلاصة ما قاله باقان إنّ الاجتماعات كانت ناجحة وتمهد لتطوير العلاقات بين البلدين والحزبين وتدعم عملية تنفيذ اتفاقية التعاون وتذليل العقبات كافة التي قد تعترض طريق تنفيذه. مع تأكيد الطرفين على تنفيذ الاتفاقية بشكلٍ كاملٍ ومتزامنٍ كحزمة واحدة واتفاق شامل بكل الاتفاقيات المتمثلة في الترتيبات الأمنية والنفط والحدود والتجارة وخلافه. وإذا كَانت هنالك حيثيات لحديث باقان على هذا النحو الذي ربما كان متفائلاً بصورة لا تسندها الحقائق على الأرض، فإنّ لصمت إدريس عبد القادر أكثر من تفسير خاصةً عن حديث باقان، فالرجل الذي تعرّض ووفده المفاوض لضغوط كثيفة ونيران صديقة في الفترة الفائتة لم يعد يثق ربما في تصريحات قادة دولة الجنوب التي غالباً ما يأتون للخرطوم بوجه طلق، ثم تأتي الأفعال المثيرة للحنق بعد أيام من مغادرتهم لها، كما حدث في هجليج بعد زيارة وفد جنوبي رفيع قاده باقان نفسه، ثم أعقب ذلك حريق وصراع في هجليج هو الأعنف بين البلدين منذ أن صارت جوبا دولة. ربما آثر إدريس الصمت لعدم ثقته في أنّ مقايضة الأمن بالنفط ستمضي إلى نهايتها المَرجوّة، فمن الواضح ان الضغوط الدولية والاقتصادية هي التي تجعل المفاوض الجنوبي والسوداني في بعض الأحيان يقدم على أقوال وأفعال من قبيل تنفيس الضغط ولو إلى حين ثم تعود الأمور بعد ذلك إلى إنتكاسة جديدة ستجعل سهام النقد تنطلق من جديد ومن ذات الأقواس القديمة لتصيب إدريس ورفاقه في وفد المفاوضات، ولذلك آثر درب السلامة كما يقولون وهو ينظر لساعته في إنتظار نهاية الأسابيع الثلاثة التي حددها باقان لاستعادة ضخ النفط، والتأكد من قدرة جوبا على فك ارتباطها وكف أذاها عن الخرطوم. وكان باقان قد قال إن موقف حكومة الجنوب واضح لتنفيذ ما اتفق عليه لوقف دعم المعارضة المسلحة في البلدين وتشكيل منطقة منزوعة السلاح ونشر آلية مشتركة من مراقبين دوليين من الإتحاد الأفريقي والأمم المتحدة وذلك للتأكد من التزام الدولتين من عدم دعم المعارضة المسلحة من قبل الدولتين. لكن ما ذهب إليه باقان سبق أن تمّ التعبير عنه أكثر من مرة في أديس وحتى بالخرطوم في شهر مارس الماضي ولكن مثل هذه الأحاديث تبدو أحياناً أقرب للاستهلاك الإعلامي، والاستخدام الخارجي. بينما غير المعلن والمخفي ان دولة الجنوب لا ترغب ولا تستطيع ربما فك ارتباطها مع مسلحي قطاع الشمال لأنهم شئ واحد في الواقع، أو على الأقل يريدون توظيفهم ككرت ضغط ضد حكومة الخرطوم التي لا يثقون فيها فيما يبدو. ومن الواضح كذلك ان الحكومة في الخرطوم تبادلهم حباً اضطرارياً بينما تستبطن من تجاربها مع دولة الجنوب، إنّ الحركة التي تحكم هناك وترتبط بشدة مع المجموعات التي تحمل سلاحاً ضد الدولة من العسير الوصول معها لأي اتفاقيات تمهد لعلاقة حسن جوار يتم بموجبها تبادل المنافع بين البلدين.. وعلى خلفية ذلك تتسم مجمل المفاوضات بينهما بشئ من عدم الوضوح لأنّهم يتحدثون في موضوعات لا تمت بصلة لانشغالاتهم الحقيقية، حيث يرى كثير ممن تحدثت إليهم في الجنوب أن أفضل السيناريوهات هو أن يسقط النظام في الخرطوم ويعد حلفاءهم الإستراتيجيين الذين سيهيئون الأجواء لاتفاقيات لا يمكن أن تتم كما يرغبون في ظل وجود الإنقاذ على سدة الحكم، وفي المقابل فمن غير الخافي أن الإنقاذ تتمنى زوال نظام الحركة الشعبية الحاكم في الجنوب وصعود حليف مهيأ لفتح صفحة جديدة من التعاون بين البلدين. مهما يكن من أمرٍ، ليست هناك مشكلة في التوصل لاتفاق بين دولتي السودان، فقد أثبتت التجربة قدرتهما في الوصول لاتفاقيات كثيرة حد التخمة، ولكن العبرة دائماً بالتنفيذ، فهل تكفي فترة الأسابيع الثلاثة التي تحدث عنها باقان لضخ النفط، ومن قبل حسم الملف الأمني، أم أن النفط سيضخ كيفما اتفق؟.. سنرى.