الدكتور مصطفى عثمان إسماعيل، وزير الخارجية الأسبق وتقلد في مسيرته السياسية الطويلة عدد من المناصب في مجال العمل السياسي منذ أن كان مسؤولاً في قيادة اتحاد الطلاب العالمي وفي جامعة الخرطوم، وثم مجلس الصداقة الشعبية، والآن مصطفى عثمان وزيراً للاستثمار.. وفي لقاء فوق العادة مع الوزير أجرت إذاعة أم درمان حواراً مميزاً قدمه د. إسماعيل الحاج موسى.. ولأهمية الحوار قررنا نشره. * ما العلاقة بين الطب والسياسة خاصة وأن معظم القيادات السياسية الإنقاذية تجمع بينهما؟ - العلاقة مرتبطة بالحركة الإسلامية التي بها أعداد كبيرة من الأطباء في فترة الإنقاذ وقبلها هنالك قيادات بالأجهزة النقابية مثل المرحوم مجذوب الخليفة، ود. غازي صلاح الدين، ود. مندور المهدي، ود. إبراهيم الطيب محمد خير ود. علي الحاج، ود. مطرف صديق وآخرين.. وأعتقد أن أحد الأسباب التي جعلتهم مع الإنقاذ وبرزوا في الساحة السياسية، هي أن المجتمع السوداني يفرض عليك الميول السياسي والعمل في المجال الطبي وبعد التخرج تكتشف أنه ليس حقلك،، وأنا تخرجت من كلية الطب وعملت بوزارة الصحة لمدة عامين ثم التدريس في كلية الطب لثلاث سنوات وبعد ذلك درست العلوم السياسية، وحصلت على الدكتوارة في العلوم السياسية ثم تحولت في ذات الجامعة لتدريس العلوم السياسية، وبالمقارنة فإنه لا علاقة في العائد المادي بين تدريس الطب والعلوم السياسية. * أيهما أحب إلى نفسك المجال الطبي أم العمل السياسي؟ - بصراحة.. لم أجد نفسي في المجال الطبي لكنني استطعت الولوج في المجال السياسي من جوانبه الأكاديمية والعملية، ولدي (13) كتابا كلها في قضايا سياسية، وعملت بحث الدكتوراة في العلاقات الدولية، والآن سأجلس قريباً جداً لامتحان أستاذ مشارك في العلوم السياسية. * لماذا الميل إلى السياسة؟ المجتمع قد يفرض عليك أمور لست مقتنعا بها تمشي فيها وتضطر إلى تغييرها فمثلاً بروفيسور أحمد عبد العزيز مدير السلاح الطبي عاد ودرس القانون لأن أشواقه كانت في القانون والعلوم الأدبية واضطر إلى الرجوع للقانون في آخر عمره. .. وأنا منذ طفولتي وجدت قريتي رومي البكري بالقرب من القولد تشارك في العمل العام، إضافة إلى شهرتها الصوفية التي تحبب خدمة الناس، وأيضاً قدمنا المجتمع الصغير هناك إلى أشياء كالأذان للصلاة، وأيضاً الحركة الإسلامية بها برنامج تربوي ولو قرأت رسائل حسن البنا تجد الإحساس بالمسؤولية والاهتمام بالآخرين وخدمتهم أصيلة في المنهج، وكذلك دراسة الطب لا تخلو من السياسة لكن بدرجه أقل من خلال النقابة والمشاركة في المظاهرات والإضرابات. * أنت أكبر وزير خارجية في تاريخ السودان؟ - أنا إذا أضفت وزير دولة لوزير خارجية حوالي تصل إلى (10) سنوات بالوزارة.. وكان محمد خير المحامي أيام عبود وزير ل (6) سنوات وفترتي تعتبر أكبر فترة لوزير خارجية.. وأيضاً كان هنالك منصور خالد لكنه ذهب وجاء عشر سنوات حقق فيها نجاحات كثيرة.. على الأقل كانت فيها مرحلة مفصلية تتجاوز فترة العزلة إلى انفتاح بعض الذكريات على الأقل بين الأفارقة والعرب. * كيف تنظر إلى فترة تولي الملف الخارجي للدولة؟ -توليت وزارة الخارجية في وضع صعب أحكم فيه الحصار على البلاد وكان وقتها المخطط الأمريكي الوصول إلى الحكم وكان لها حق الفيتو لأي مجموعة إسلامية تسميهم جماعة الإسلام السياسي وأنهم يصلون إلى الحكم كما حدث في الجزائر وعندما وصلت جبهة الإنقاذ في بداية التسعينيات وتدخل الجيش وحسم المسألة وفي تركيا أصبح أربيكان رئيس وزراء ذهبت به إلى السجن من رئاسة الوزراء. * وكيف الأمر مع الجبهة الإسلامية؟ .. مع الجبهة الإسلامية أيام الديمقراطية الثالثة كانت مذكرة الجيش ووصلنا إلى قناعة في الحركة الإسلامية بعدم التخطيط للوصول إلى السلطة عبر الانقلاب لأنه ليس من إرث ومنهاج الحركة الإسلامية في أي دولة من الدول.. وناقشنا الموقف في المكتب السياسي بالخيارات المتاحة للوصول إلى السلطة وهي صندوق اقتراع واضح بوسيلة ديمقراطية يمكن الوصول بها لكن وجود ال (فيتو) الأمريكي بأنه لا يمكن الوصول عندما جاءت مذكرة الجيش وصلنا إلى قناعة بأنه لا يوجد طريق يمكن الوصول به، وثانياً عمل ثورة شعبيه (ثورة المصاحف) في رمضان، وجاءنا تقرير يشير لوجود مليشيات وأسلحة في البلد وهذا يقود إلى سيل دماء في البلد ويحول الثورة إلى ثورة دماء، وثالثاً التغيير عبر الانقلاب العسكري لكن ظللنا في الحوارين من ثورة شعبية مخاطرها سيل الدماء والانقلاب العسكري لكنه لا يعطي شرعية فوصلنا إلى قناعة الانقلاب العسكري ويكون استثناء وليس أصلا وعند وصولنا للسلطة نرجع الاستثناء إلى أصله بالممارسة الديمقراطية والتعددية السياسية ويبقى الشعب صاحب القرار ونحميه ونحمي أي حزب لكن عندما أخرجونا من حكومة الوحدة الوطنية عرفنا أن (الفيتو) الغربي يتابعنا من الجزائر لتركيا ووجدنا أن الحكاية لن تتقدم. * وكيف هي الأمور إبان تولي مصطفى عثمان مقاليد الخارجية ؟ عندما أصبحت وزيراً للخارجية كان الحصار علينا محكما.. وكانت قصة أديس أبابا علينا، وأيضاً الرئيس المصري حسني مبارك كان غاضبا جداً،، وأنا كنت وزير خارجية بعد استشهاد المشير الزبير وهناك قصة في الموضوع كان هو رئيس التنظيم وكنا في طريقنا من إيران إلى السودان.. وأنا كنت ممسكا بملف الدعوات الخارجية وحينما اقتربنا من الوصول إلى المدينةالمنورة قال لي مسؤول المراسم بأن نائب الرئيس يريد زيارة قبر الرسول الكريم ولا يمكن ذلك، وأن الحكاية ما ساهلة بالنسبة لنائب رئيس، وقال لي أنه من الأفضل أن تتحدث معه، فذهبت وقلت له يا سعادة إنت فاكر (دي رومي البكري ولا الغدار)، وقلت له نعود للخرطوم وأنا سأتدبر أمر زيارتك إلى قبر الرسول الكريم، وعندما جئنا للترتيب بدأ الشهيد الزبير التجهيز لزيارة الجنوب وأنا كنت ضمن الوفد حسب القائمة الموضوعة، ذهبت وقلت له أن نؤجل الزيارة عقب المؤتمر فرفض وقال لي (لو ما ح تمشي أنا ماشي)، وأذكر أنني كنت وزيراً للدولة أذكر وعندما مررت بعلي يس حينما كان وزيراً للدولة بوزارة الحكم الاتحادي ذهبت له في الحكم الاتحادي ووجدته (زهجان) وقال لي أنه غداً سيذهب للجنوب في زيارة للشهيد الزبير وزوجتي على (الولادة)، وأنا مصاب بداء السكر والضغط، فقلت له اعتذر للنائب الأول عن الزيارة، فقال إنه لا يستطيع وأنهم سيعتبرونني خائفاً، فأجريت اتصالاً بالشهيد الزبير عليه الرحمة وأخبرته بالظروف التي يمر بها علي يس، فقال لي: (انت ما عايز تمشي ولا تخلي الناس تمشي طيب وريني يمشي منو، قلت ليهو الناس البشبهو الرحلة دي الطيب إبراهيم محمد خير- موسى المك كور)، وكان الأخير وزيراً، فأعفى الشهيد الزبير علي يس من الزيارة وحتى الآن علي يقول لي (طلعتني من موته بعد أن حصل ما حصل في الطائرة). * العلاقات السودانية المصرية كانت متوترة عقب انقلاب 30 يونيو؟ كانت هنالك قطيعة بيننا ومصر وعندما وقع انقلاب يونيو كان المصريون يحسبون أن الانقلاب تبعهم وعندما سمعوا الزبير لأنه معروف بالنسبة لهم اتفقنا أنا والشهيد الزبير أن نجري زيارة إلى مصر لفك العزلة بعد ما أن استئذنا الرئيس بالزيارة الذي وافق بشرط أن تكون الرحلة من المطار إلى القصر إلى المطار وكنت ذاهبا إلى السعودية ،مسؤول المراسم سألني إنت ماشي مع النائب معاكم منو؟ قلت ليه اكتب (v.i.p) يعني شخصا مهما يمكن اضافته وعلى ذلك الأساس رجعنا وفي الطريق وقعت القصة المشهورة ونحن في طائرة الرئيس الصغيرة (فالكون). * ماهي القصة الشهيرة في الرحلة؟ .. كان الزبير يرتدي جلابية وأنا أرتدي (بدلة) على أساس أن الزيارة ساعتان فقط ونعود إلى الخرطوم، وأثناء الرحلة طلب النائب قهوة من المراسم وكان (يلف) عمامته فتدفقت القهوة على (بدلتي الوحيدة) وأعتذر لي رجل المراسم ولكني صمت، فقال لي الزبير: إن الرجل اعتذر لك، لماذا أنت صامت؟ فأخبرته بأن (البدلة) وحيدة، فقال لي ارتدي (بدلة) مدير مكتبك لكن بعد التجربة وجدناها قصيرة جداً بحجم الرجل، فأمر الشهيد الزبير كابتن الطائرة بالهبوط في مطار القاهرة فأمر ب (تشوز) ومسح (البدلة) حتى أزاح عنها القهوة ثم ذهبنا للقصر الرئاسي المصري. * ماذا حدث في لقائكم مع الرئاسة المصرية لأول مرة؟ أول (مطب) اعترضنا بعد وصولنا القصر الرئاسي المصري افتكروا أن د. حسن عبد الله الترابي معنا في الرحلة وهم يكرهونه جداً، سألونا أين الترابي؟ وهو موجود في قائمتكم، فأجبناهم بأن الترابي ليس معنا، فشرحت لهم لماذا نحن أدرجنا اسم الترابي في القائمة، و(ماعارف كان مرتبين للترابي شنو؟). ثم أدخلنا للرئيس حسني مبارك وبعد السلام انقلب على الزبير وقال له (ما تجيناش)، فقال له الشهيد الزبير والله يا السيد الرئيس انت في القلب لكنك لا تعرف أن المشكلة كلها في الأخوان المسلمون بإشارة بأصبعه نحوي، وبعدها أمر مبارك ببقائنا أسبوعا كاملا ونحن لسنا جاهزين للبقاء فهمست للزبير (يا سعادتك الحكاية دي ما بتنفع الناس ديل العلاقة بينا وبينهم مقطوعة، قام عصرني، وقال لي أنا عارف مشكلتك ياها بدلتك دي بلقى ليك بدلة غيرها ما عرفت أضحك ولا أعمل شنو)، انتهى اجتماعنا بالرئيس حسني مبارك وأحضر الطائرة وذهبنا إلى الاسكندرية مكثنا فيها ثلاثة أيام، وبعد وصولنا خلع الشهيد الزبير جلابيته وبقي بال (العراقي)، وعندما جئت إليه في الصباح سألني (إن شاء الله ارتحت؟)، فأجبته بالرفض وقلت له إنهم لن يظنوا فينا خيراً نظراً للعلاقات المقطوعة بيننا ولا يمكننا أن نمكث أكثر من ذلك، فقال لي (انت ما بترتاح ولا تخلي الناس ترتاح)، فقلت له أطلب الرئيس حسني مبارك بالتلفون فأخبره أننا لا يمكننا أن نبقى أكثر من ذلك، فاستدعاني بعد مدة قصيرة وقال لي إنني أخبرت مبارك بعجلتنا وأنه من الضروري أن نعود إلى الخرطوم فقال لي (الزبير ارتاحوا من الإنتو فيهو دا وقلت له ح نمشي بكرة)، وكانت بداية أذابت الجليد رغم أن الرئيس كان غاضباً وأن رئيس هيئة الأركان جاءه بجانب قادة الأسلحة وأبلغوه بجاهزيتهم لضرب الخرطوم بالطيران فقال لهم مبارك (ديل مين اللي ح تقصفوهم ديل نحن وصرفهم)، وكانت النقطة التي أحدثت التغيير الكبير في العلاقة بين السودان ومصر. * وكيف كانت العلاقات السودانية العربية؟ _ علاقتنا كانت مأزومة مع العرب والغرب خاصة امريكا، ومفتاح علاقتنا مع الدول العربية كانت مصر. *لكن علاقاتكم بالغرب أكثر توتراً ؟ _ أنا ذهبت إلى أمريكا في شهر سبتمبر وفي أغسطس قصفت مصنع الشفا وكانت قمة التوتر في العلاقات ،ولما ذهبت الوزيرة والتقت المعارضة في يوغندا وطالبت بذهاب النظام بالحرب أو السلم لعدم قبولها له أطلق انطوني تصريحه الشهير بأنه سيحارب النظام عبر دول الجوار وقصف مصنع الشفاء للأدوية ،الرئيس كيلنتون في برنامجه محاربة الإرهاب وكان القصد النظام.. ذهبت إلى نيويورك إلى افتتاح الجمعية وعادة يخاطب افتتاح الجمعية العامة رئيس الولاياتالمتحدةالامريكية ورئيس المجمعات الاقليمية والأمين العام وكان ينظم غداء للرؤساء جلس فيه كلنتون ووزراء الخارجية في الأطراف وبالقرب مني رئيس الخارجية الفلبيني الذي توفي الآن اقتربت من كلينتون لكسر القطيعة وألقيت السلام على الرجل وقلت له أنا وزير خارجية جمهورية السودان وكان كوفي عنان الامين العام وقتها قلق على الموقف، (عنان تخيل أن وزير خارجية الدولة الموصوفة بالإرهاب سوف يتم طحنه منه قبل ال (f.b.i) وذهبت ليلاً إلى الفندق عندما أرسل لي كلنتون (بكنك) وكيل وزاة الخارجية الامريكية وبدأنا الحوار. وكنت اتبع وسائل مختلفة عبر رسائل للدول تفيد بان السياسة السودانية ليست عدوانية كما يعتقدون، بجانب أسلوب الاتصال المباشر الذي هو الأفضل في الدبلوماسية. *علاقتك بالفن؟ عندما يقال (دناقله) دنقلا ليست قبيلة بقدر ما هي جغرافيا فيها أصول نوبية وشايقية وبديرية ومحس وهم خليط ... أنا ذكرت ذلك كمقدمة لأن أكثر ثقافة لدينا في مجتمعنا ثقافة الطنبور، الذي بدأ عند الشايقية، وكما يقولون(ان نجح يبقي هجاني وان سقط يبقي طيانى)، وعندما يأتي الشباب في المناسبات يتغنون بأغاني النعام آدم الذي هو فناني المفضل وهو متنبئ الشمال في الصوت والأداء يليه محمد كرم الله وجعفر السقيد.. والغناء مرتبط بالبيئة. * كلمة عن الرئيس البشير؟ _ قبل أيام كنت مع الرئيس البشير وهو صاحب نكتة ويخفف همومه وهموم غيره.. قبل أيام صليت معه صلاة الظهر وكنا نتحدث في مواضيع عديدة بعد أيام سلمت عليه قال لي (انت وين نفتش عليك، اغتربت؟) قلت له يا سعادتك أنا الأربعاء أديت صلاة الجمعة معك فضحك وقال لي (كدي وريني علاقة الأربعاء بالجمعة شنو؟) فقلت له كما قال التونسي (هرمنا).