في مفاوضات أديس التي انتهت الى التفاهمات الشهيرة بين السودان ودولة جنوب السودان، كان العجوز الأمريكي برنستون ليمان أكثر المبعوثين حيويةً رغم تقدم السن البائن على ملامح وجهه وضعف جسده.. كنا نرقب تحركاته فنعلم أن عقدة ما تحتاج لمن يروضها حتى لا تصاب المحادثات ب (جلطة) تسكتها إلى الأبد. استقال ليمان أم أُقيل.. غادر طائعاً أم أُجبر على الرحيل.. تبقى الحقيقة الوحيدة في هذا السيناريو الذي يكتنفه الغموض هو أن سلام السودان يتعرض ل (مؤامرة تخريبية) من قبل جهات نافذة للولايات المتحدة ظلت تسعى على الدوام لنسف أية بادرة سلام تلوح في أفق السودان. بعد عام ونصف يترجّل العجوز ليمان، ويغادر منصبه كمبعوث للرئيس الأمريكي شأنه شأن سكوت غرايشون صاحب الحلول الاحترافية المنزهة عن غبائن السياسة وتكنيك الترويض الدولي الذي ظلت واشنطن تستهدف به الخرطوم منذ العام 1990 عبر العقوبات تارة والغارات تارة أخرى، وباستخدام عشرات العصي والقليل من الجزر المسموم. يمضي ليمان في مرحلة حاسمة من تاريخ العلاقات بين السودان وجنوب السودان.. الرجل كان قاب قوسين أو أدنى من (تشطيب) مهمته بنجاح.. فقد تمكّن بجهود معلومة إلى جانب قيادة البلدين والمبعوثين والوسطاء الآخرين من هندسة الإطار المنطقي لإدارة علاقات حُسن جوار آمنة. نجح ليمان ومن معه في تفكيك القنابل الموقوتة وهم يصممون اتفاقية تاريخية يعلم باراك أوباما وأجهزته أنها داخل غرفة الإنعاش الآن بفعل تعقيدات فك الارتباط.. فالتوقيت قاتل ومقصود لأن ليمان من الأطراف المعتدلة التي تستطيع التعامل مع كل المطبات نظراً لإلمامه الكافي بتعقيدات القضية السودانية. قصدت واشنطن أن يغادر ليمان في هذا التوقيت ونيران أبيي مُشتعلة، وجرح دارفور يعاني بعض القروح، وأزمة فك الارتباط على أشدها.. رحل ليمان واتفاقيات أديس تدخل الإنعاش، والرجل على مواقفه المبدئية التي تقول: أنه لا يود أن يسقط النظام في الخرطوم وأن حل أزمة المنطقتين هي الضمان الأساسي لعلاقات مستقرة بين الشمال والجنوب. كان لابد أن يدفع ليمان ثمن مواقفه المعتدلة، خاصة وأنّ هنالك ملاحظات لجماعات الضغط في بلاده تصنفه من الحمائم وتقول بأنه لا يعمل (العين الحمرا) مع المؤتمر الوطني، وإنه صاحب نبرة هادئة في التعامل بعقلانية مع مواقف الخرطوم، وإنه يعارض التيارات الرافضة للتطبيع مع السودان. رحيل ليمان في هذا التوقيت يعني أن أوباما مقبل خلال دورته الثانية على سياسات أكثر تشدداً تجاه الخرطوم، وإن التآمر على استقرار السودان مازال مستمراً، وإن هنالك مجموعات ضغط سعت بقوة لقطع الطريق أمام تفاهمات أديس التي ستفتقد ليمان كثيراً. أياً كانت الدوافع كان بإمكان واشنطن التريّث قليلاً ريثما تنجح اتفاقية أديس ويكتمل فك الارتباط ويتعافى إقتصاد البلدين بتفعيل اتفاقيات التجارة وعودة النفط الى أنبوبه.. ألم أقل لكم إن رحيل ليمان محاولة تخريبية.. إذاً فلنستعد للأسوأ.