ما يجرى من أحداث في مصر وتونس بين المجموعات العلمانية واللادينية، وبين القوى الإسلامية التي أضحت تمثل الضمير الوطني في هذه البلدان، هو صورة مكبرة لما يحدث في السودان واليمن والمغرب ، وربما سائر البلدان العربية التي تشهد بلا استثناء نهضة غير مسبوقة للتيار الإسلامي. هذه القوى العلمانية وبعد أن أيقنت أن الجماهير أعلنتها بالكفر بعنوانها اللا ديني وحكمها الاستبدادي وسياستها الظالمة الفاسدة، نصبت لأنفسها خيمة كبرى وضعت على بوابة منها اسم القوى المدنية وعلى الأخرى القوى الليبرالية، وقد يعجب المرء من تهرؤ العبارة وتفسخها وعجزها عن تحمل الفكرة. أما الآن فهذه القوى التي تُجسد كل معنى ثارت عليه جماهير الأمة العربية تجيء متدثرة بعباءة المدنية . وتارة أخرى بدثار القوى الليبرالية . وهي مدنية ظلت الأحزاب التي حكمت المنطقة طيلة فترة ما بعد الاستعمار تجافيها وتباعدها كما باعدت الثريا سهيلاً . فالبذة العسكرية هي ما تحلت به هذه الأحزاب في العراق وسوريا ومصر وليبيا ,أو اتكأت على منسأته في تونس. وأما الحقوق المدنية Civic Rights فهي أبرز الممنوعات على عهد حكم البعث والناصريين والشيوعيين والبيروقراطيين الذين ظلوا الملأ الأدنى للأنظمة القهرية ,وإن أحسنوا التمشدق بالكلام (الصحيح سياسياً). الدولة المدنية والقوى المدنية: أحزاب الزمن الداثر سكت مصطلحاً جديداً لا تعرفه الأكاديميا السياسية، ولا الاستخدام الدارج السياسى في هذه المنطقة أو أية منطقة سواها من العالم, وهو مصطلح الدولة المدنية. وهم يعلمون تماماً أنه مصطلح جديد يخبئون تحته الاسم القديم للدولة العلمانية الذي خبأوا تحته الاسم الحقيقي الذي لا صلة له بالمدنية ولا بالعلم، وهو الدولة اللا دينية . فالقواسم المشتركة التي تجمع كل هؤلاء هي مباعدتهم للدين سلوكاً فردياً وجماعياً . ومجانبتهم للإسلام استلهاماً أو استهداءً، ثم محبتهم وعشقهم للمتغلب المستعمر المستكبر ثقافةً وسياسة واقتصاداً. فالصحيح الذي عاقد قلوبهم وعقولهم هو ما جاء من تلقاء أوربا أو أمريكا . أكان فكرة أو خطة أو صرعة من صراعات الفنون والأزياء المتقلبة المتحولة في العالم الذي يتسمى بالعالم الأول. وهؤلاء المتدثرون بثوب القوى المدنية ساسة كانوا أو أعلاميين أو بيروقراطيين في الخدمة العامة أو القضاء كانوا جميعاً أدوات الأنظمة التي ثارت عليها الجماهير العربية صيفاً وشتاءً . وليس ربيعاً كما أطلق عليه المستتبعون الإعلاميون . فلئن كان الإعلام الأوربي لا يريد أن يرى في العالم حدثاً إلا وهو صدى لحدث أوربي، أو فكرة أو سياسة أوربية، فإن إعلام المحاكاة العربي هو الذى أطلق اسم ربيع عربي على ثورات وقعت في ديسمبر ويناير وفبراير. ولكن لأن شرق أوربا لا يمكنها أن تثور في مواسم الجليد فكانت ثوراتها في الربيع، فإن الثورة العربية أصبحت لدى الوراقين أو المرددين للأصداء في الإعلام العربي هي ثورة الربيع العربي . فكم يُنبيك هذا عن المدى والشوط الذي مضى عليه جل إعلام العرب في مسيرة المواكبة والتبعية للإعلام الغربي. والمتدثرون تحت غطاء القوى المدنية المبشرون بإقامة الدولة المدنية، يعلمون أن الحكم ما بعد الثورة في مصر أو تونس أو اليمن أو غيرها، قد نهض على أنقاض حكم المؤسسة العسكرية. وهم اليوم من ينفذ مخططاً مقصده استثارة الفوضى لاستدعاء حكم العسكرتاريا من جديد. وهم كذلك يعلمون أن دولة المواطنة التي تقوم على تحقيق مساواة المتساكنين جميعاً في الحقوق المدنية والسياسية، هي ما ينادي به الإسلاميون ويطبقونه على واقع الحال. فلا يوجد في القوى الإسلامية سواء في مصر أو تونس أو السودان أو غيرها من ينادي بدولة تفرق بين المواطن والآخر بسبب العقيدة أو العرق أو اللون أو النوع أو الرأي السياسي. وأهل الاختصاص جميعاً يعرفون مصطلح الحكم المدني ويعرفون الحقوق المدنية والمجتمع المدني، ولكنهم لم يسمعوا بالدولة المدنية إلا من معسكر الانهزام الفكري والسياسي التي تمثله فلول أحزاب الزمن الداثر من ناصريين وبعثيين وشيوعيين وبيروقراطيين، يعرضون خدماتهم وولاءهم لمن يضمن لهم الإرتقاء الشخصي والمنافع الخاصة. ليبراليون ولكن بلا ديمقراطية: وهذه الأحزاب والقوى السياسية التى تتسمى بالقوى الليبرالية تقف موقفاً جديداً . فما نعلمه عن البعثيين والناصريين والشيوعيين أنهم كانوا يستنكفون أن يوصفوا بهذا الوصف. كذلك فإن الإعلام الغربي والإعلام التابع له عربياً أصبح يسلم لهم بهذا الوصف، ولا أدري كيف ولماذا إلا إذا كان صدام والأسد وعبد الناصر من أرومة الليبرالية . يقولون ذلك رغم أنه لا يوجد في أيدولوجيا ولا في تاريخ أيٍ من هذه المجموعات السياسية ما يوائم الليبرالية بأي وجه من الوجوه . فهذه أحزاب تدعو بخلاف الليبرالية إلى هيمنة الجماعة على الفرد . وإنما تنهض الليبرالية على فلسفة فردانية متطرفة . ولأن هذه الاحزاب تقول بهيمنة الجماعة على الفرد فإنها تراه أمراً مشروعاً أن تسحق آراء وأفكار وكرامة ومصالح المواطنين تحت حذاء الايدولوجيا التي تعتبرها هي المعبر الحقيقي عن شرعية هيمنة الجماعة الطبقية أو القومية على الأفراد. ولأن أحزاب الإشتراكية العربية هي مجرد نسخة معدلة من الماركسية تتماهى مع الماركسية تجربة وتاريخاً وفكراً سوى أنها تستبدل الأممية بالقومية، وتستبدل الطبقة البرجوازية الصغيرة بالعسكرتاريا. فلا غرو أن يتجمعوا فى فسطاط واحد تحت العنوان الذى قد يدغدغ الذائقة السياسية الغربية . وأما البيروقراطيون الذي تجدهم عن أيامن القوميين والناصريين وعن مياسرهم فقد كانوا دائماً خدماً وحشماً للحكومات البعثية والناصرية وحكومات العسكرتاريا في المنطقة . ولم ينطقوا ببنت شفة حتى أنطقتهم التعاليم القادمة من واشنطون ولندن وباريس ، وهؤلاء جميعاً لم نعرف لهم موالاة فكرية للديمقراطية، ولم نشهد لهم نضالاً على طريق تحقيقها. بل أننا لم نسمع منهم حتى هذه اللحظة كلمة مراجعة واحدة ضد عهود الاستبداد التي حكمت خلالها أحزابهم بقوة الحديد والنار وبالمصانعة والمتابعة لقوى الاستكبار الغربي. ونحن لم نسمع من الحزب الشيوعي في بلادنا أنه قد تبرأ من تاريخه عندما كانت (مايو سيف العدا المسلول وكانت تشق أعدانا عرض وطول)، ولم نسمع لهم مراجعات عن أخطائهم في مصادرة الحرية من الجميع (إلا القوى التقدمية)، ولم نسمع منهم كلمة عن مصادرة أملاك أصحاب الأعمال لا لشيء إلا أنهم من (القوى الرجعية)، ولم نسمع مراجعة لمقولات (دكتاتورية البرولتاريا) أو إنكارهم (للديمقراطية البرجوازية)، أو تقسيمهم للقوى السياسية لقوى رجعية وقوى تقدمية، أو إيمانهم بالمركزية الديمقراطية بديلاً للديمقراطية الليبرالية، وأهم من كل ذلك مدى استعدادهم لتقبل لقب الليبرالية عن طيب خاطر ماركسي . نحن في انتظار هذه التراجعات الفكرية والمراجعات السياسية كي نحمل بديلهم الديمقراطي محمل الجد والنظر الجديد السديد. أما البعثيون فنريد كلمة صريحة عن حكم صدام وحكم آل الأسد ما جرى في العراق، وما يجري في سوريا. نريد أن نسمع عن مفاصلة مع أنظمة القهر والاستبداد وعن طلاق غير رجعي للأولجاركية المتمسحة بمسوح التقدمية . وهي ترفل في ثوبٍ عشائري خلقٍ في العراق وثوبٍ طائفي ترب في سوريا. وأما الناصريون والساداتيون والمباركيون فعليهم أن ينسبوا أنفسهم من جديد لحقب العسكرتاريا المختلفة في مصر سواء كانت ناصرية أو ساداتية أو مباركية . فنحن لا نعرف لعبد الناصر رعاية لحقوق الإنسان ولا حفاوة بالديمقراطية، وإن كنا نحمد له حميته الوطنية وغيرته القومية ،ولكننا لا نرى ملامح حتى هذه المحمدة في الأحزاب الناصرية . فما عادت الناصرية اليوم شارة وشعاراً ضد الانحياز للغرب، ولا صيحة ممانعة في وجه الاستكبار والاستعمار. خاتمة وفاتحة: هذه الكلمات كما هي خاتمة لهذا المقال، هي فاتحة لمقالات عن بعض أحزابنا في السودان وفشلها فى إعادة تخليق فكرها ومواقفها وقيادتها لتكون مؤهلة لتوفر بديلاً في إطار ديمقراطية الجمهورية الثانية . فنحن مع قلة ثقتنا في هذه الأحزاب فإننا ندرك أن نظام الديمقراطية نظام تصنعه تعددية حقيقية في الأفكار والمواقف والبرامج, ويرتقي به تنافس حقيقي بين قوى تطرح بدائل حقيقية للجمهور ليكون له الخيار. فالديمقراطية هي أن يؤول الخيار للشعب وللشعب وحده بلا استعلاء لنخبة ولا وصاية لحزب.