ورطة كبيرة أقحمت فيها الإنقاذ نفسها، ولم تعد قادرة فيما يبدو على الفكاك منها وتصحيح الخطأ الذي إرتكبته في السابق إلا بالمزيد من الأخطاء السياسية التي ستكلفها الكثير في حال أقدمت عليها، كما ستكلفها الكثير كذلك في حال لم تقدم مكتفية بإجراء جراحة موجعة للتخلص من دائها القديم. الداء، داء الإنقاذ بالطبع ، لم يكن داءً أول الأمر ، بل كان ترياقاً للمشاكل الناتجة من استحواذ المركز على الصلاحيات واستئثاره بالثروة والسلطة حيث شاع وقتها أن حفنة من الناس يسيطرون على إدارة شئون مناطق أخرى لا علاقة لهم بها، وهو الأمر الذي أفرز حالة من التململ في أقاليم السودان المختلفة، مع مطالب مشروعة استجابت لها الإنقاذ فيما بعد عندما أرست لتجربة الحكم اللا مركزي التي مكنت أبناء الولايات من حكم أنفسهم بأنفسهم. لكن تجربة الحكم اللا مركزي، ورغم تحقيقها لحالة من الرضا، فقد لحقت بها تشوهات كبيرة عندما أصبحت عبئاً ثقيلاً على المواطنين في الولايات والمحليات المختلفة، وأصبحت مخصصات الدستوريين وامتيازاتهم المتعددة خصماً على خدمات المواطنين الذين يُطالب باسمهم بإنشاء مثل تلك المحليات والولايات كما رأينا. بالأمس فقط، حملت صحف الخرطوم مطالبة قوية لإمارة عموم قبائل حمر بالنهود بإنشاء ولاية جديدة تكون عاصمتها النهود وتضم إلى جانبها مناطق ومحليات ود بندة و غبيش و أبو زبد و الأضية، والخوي. ذلك بعد اجتماعٍ عاصف ضم الأمير عبد القادر منعم منصور والمهندس أحمد علي عبيد الله رئيس مجلس شمال كردفان التشريعي والطيب حمد أبو ريدة وزير التربية بالولاية وقيادات أخرى قالت إنها لن تبقى بالأبيض، ولن تذهب للفولة. ومن المعلوم أن الفولة ستكون حاضرة ولاية غرب كردفان التي ذوبتها إتفاقية نيفاشا في العام 2005م، وظلت مطلباً ملحاً لأهل الولاية حتى استصحبها والي جنوب كردفان أحمد هارون معه كوعد انتخابي ، وأكد النائب الأول لرئيس الجمهورية علي عثمان محمد طه عودة تلك الولاية يوم الخميس الماضي. ليجتمع أبناء دار حمر يوم الجمعة ويطالبوا بقوة بإنشاء ولاية بعيداً عن الفولة والأبيض. تجربة الحكم اللا مركزي تعتبر من أفضل التجارب في الحكم إذا أُحسِن تطبيقها، لكن تطبيقها بالصورة الحالية، يشير إلى تشوهات كبيرة جعلت من إنشاء الولايات والمحليات مطلباً للمتطلعين في الحكم والإستوزار دون أن تكون هنالك حاجة ضرورية لإنشاء ولاية أو محلية تشكل عبئاً إضافياً على خزينة الدولة المنهكة أصلاً، ومن الغريب أن يحاول البعض إسناد مطالبتهم بالتذكير بدعم للإنقاذ الأمر الذي يجعل الولاية أو المحلية وكأنها مكافأة على دعم سابق. من الآخر، يبدو أن هنالك ضرورة في أن تقوم الحكومة بمراجعة تجربة الحكم اللا مركزي وما نتج عنه من محليات وولايات لم تكن هنالك ضرورة لها في الواقع، بعد أن استفاد منه البعض فيما كانت خصماً على المواطنين وعبئاً ثقيلاً عليهم، فهل تستخدم الإنقاذ أخيراً مشرط المعالجة لتخرج من ورطتها، أم تظل مثل أم التيمان التي تستجيب للطفل الذي يبكي وتترك الآخر الصامت - كما يقولون ؟