ارتبك انتباهي واتكأ على كلمات ظاهرُها مشوَّهٌ، وداخلُها معتوهٌ (جميل .. رائع ..أفكار حلوة.....)، كلمات تتسللُ من بين شَفَتيَّ وأنا أشاهدُ إنجازاتِ إحدى معارفي وهي تتبخترُ أمامي لِتُرِيَني المنزلَ المكونِ من أربعِة طوابق، والذي بنته وزوجُها لأبنائها الأربعة بعد أن اختارت لهم كليةَ الطبّ لتكون تخصُّصَهمُ الجامعيّ، واستمرتْ في الحديثِ - ونحنُ نشربُ الشّاي- بأنها ووالدَهمُ اشتريا قِطعة أرضٍ، ووضعا رصيداً في البنك لكلٍ منهم تأميناً لمستقبلهم قبل أن يوهنَ العظمُ ويشيبَ الرأسُ، وبينما أنا أسمعُ هذا الحديثَ المترهِّلَ دخل أحدُ الأبناءِ مطأطِأَ الرأسِ، ودون أن يلقي علىّ التحيةَ همس في أُذنِ أمِّه، وعرفتُ من إجابتِها أنّه يسألها : هل أرتدي القميصَ المخطط أم القميصَ السادة؟ ارتجف الفنجان في يدي وانسكب ما فيه، فطالب في المستوى الخامس طب يسأل أمه ماذا يلبس!! لقد أخبرتني أمي ذات يومٍ أن اقتراف الذنوب يُوقِظ فينا رغبةَ البكاءِ طويلاً، ويُشعلُ في الأرواح فتيلَ الاستغفار ، والله غافر الذنب قابلُ التوب، ولكنّي أقفُ على بساطِ اليقينِ أكتبُ بقلمٍ ذابَ في قبضةِ أناملي فرسَم سؤالاً ولم يُقيِّد آخره بعلامةِ استفهامٍ لأن إجابته ستظل مُرتَهَنةً بمعاقلِ الشرودِ، هل ما نقترفه من كبائر في حق أبنائنا يغفر ..؟! فقبل أن نترك للأبناء رصيدا في البنوك، وعقاراتٍ، وشركاتٍ تَقِيهم مرارةَ العيشِ، لنُنْفِقِ القليلَ من قيمةِ ذلكَ على استثمارهِم، فهم بشرٌ لهم طاقاتٌ، وقدراتٌ، وهواياتٌ، وطموحاتٌ، وأفكارٌ، وشعورٌ، فالاستثمارُ فيهِم ليسَ بضخِّ النقودِ فقط، وإنّما مِن خلال التّعليمِ، والتَّدريبِ، والتَّأهيل، ويُخطِئُ بعضَ الآباء في اعتقادِهم أنّ استثمارَ الأبناءِ في التَّعليمِ يعني اختيارَ مدرسةٍ، أو جامعةٍ نموذجيةٍ دونَ الاهتمامِ بتفاصيلِ حياتهمُ الأخرى ، وهذه نظرةٌ قاصرةٌ لِأنّها تُغَطِّي جانباً واحداً وهو تعليمُ المناهج الدراسية، في حين أنّ هناك جوانبَ أكثر أهمّية، فليس هناك معنى لشخصٍ تعلَّم جيِّدا بينما شخصيتُه لا تصلُح لمواجهةِ الحياةِ ومصاعِبَها. ولا يكون التعليمُ جيداً عند إجبارِ الأبناء على اختيارِ تخصصٍ معيّن باعتباره يقدّم أفضلَ الفرصِ المادّية، والاجتماعية بعد التخرج، كما ينبغي أن نهيئ لهم الفرصةَ للتعاملِ مع المُعطيات المتوافرةِ في البيئةِ المحيطةِ بهم ليتمكنوا من تكوينِ تفكيرهِمُ الناقد الذي يعطيهم مفاتيحَ حلِّ المشكلات، فإذا استطعنا أن ننمِي هذا التفكيرَ لديهِم، لا يهم أي المجالات سوف يدرسون، لأنّهم سيكونون قادرين على تطويعِ هذه الدراسةِ لتخدِم حياتَهمُ العمليةَ من خلال ابتكاراتٍ جديدةٍ تُسهِم في تطويرِ حياتهم وتنعكسُ إيجاباً على بناءِ المجتمع، فتعليم مهارة حل المشكلاتِ، والتعامل مع التغيير الحاصلِ في المجتمع أهمُّ مِن مجال الدراسةِ نفسه، ولنعطِ رسالةَ التربيةِ أهميةً أكبر، ولنربِ أبناءَنا لزمانٍ غير زماننا.