ليس سراً، أن السبب الذي أفشل الكثير من جولات التفاوض بين السودان وجنوب السودان، هو انتظار البعض في جوبا لسقوط النظام في الخرطوم، وبالتالي فإنّ الكثير من الجولات كانت فقط مناسبة جيدة لالتقاط الصور وتقاسم التصريحات والابتسامات المصنوعة أمام عدسات الكاميرات وفلاشات المصورين، بينما يستبطن المفاوضون أو بعضهم على الأقل، أمراً آخر. ذلك الأمر، هو في الواقع انتظار سقوط النظام بعد أن يدفع الوضع الاقتصادي الضاغط بالجماهير للشارع إحتجاجاً على سياسات الحكومة، أو ربما تفلح قوى المعارضة المسلحة التي تقاتل النظام بالأطراف في الدق على أبواب الخرطوم حسبما كان يأمل البعض بالجنوب عندما أداروا ظهرهم لتنفيذ عدد من الاتفاقيات انتظاراً للمجهول. وللأمانة، فليست جوبا وحدها التي كانت تتمنى إسقاط النظام في الخرطوم، ففي الخرطوم نفسها هناك من لا يرى في حكومة الجنوب شريكاً محتملاً لتنفيذ أي من الاتفاقيات التي توقع عليها مع الحكومة، لذلك كانوا يراهنون على أن يسهم الوضع الاقتصادي وربما الأمني بالجنوب في تغيير حكومة الحركة الشعبية ومجئ حكومة أخرى حليفة تكون جادة وراغبة في تطوير العلاقات مع السودان. بالطبع، لا ينطبق هذا الحديث على الكثيرين في الجانبين ممن يغلِّبون الإستراتيجي في علاقات البلدين على التكتيكي ويرون أن المصلحة للشعبين في إقامة علاقات طيبة تعظم المصالح المشتركة، وتطور مجمل العلاقات بين البلدين، أو على الأقل علاقات يكف فيها كل طرف أذاه عن الآخر. ولذلك دأب العقلاء - رغم سهام النقد التي انتاشتهم - على الوصول لاتفاقيات التعاون الثماني في أديس سبتمبر الماضي، وهي اتفاقيات كافية تماماً لجعل الانفصال محض انفصال سياسي في حال تطبيقها. تلك الاتفاقيات، دخلت مرحلة الإنعاش وكادت تموت كما هو معلوم لولا حكمة القيادة في البلدين، وجهود الوساطة التي عقدت قمة بين الرئيسين البشير وسلفا كير لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، وتجديد الرغبة في تنفيذ ما تم التوقيع عليه بأديس قبل أشهر. وتشهد أديس أبابا اليوم اجتماعات مُهمّة جداً للجنة السياسية الأمنية المشتركة يتم فيها اختبار جدية للأطراف في تنفيذ اتفاقيات التعاون، حيث يتم وضع مصفوفة متكاملة لإنفاذ ما تم الاتفاق عليه بالتزامن، وسيظهر اليوم أو غداً ما إذا كانت هنالك أية محاولة للتملص ونفض اليد من تلك الاتفاقيات. من الآخر، فإنّ ثمة مخاوف من أن تحاول جوبا النكوص عن تنفيذ ما وقعت عليه بأديس خاصة بعد اجتماع المعارضة وتواثقها على وثيقة الفجر الجديد التي هدفت في الأصل لإرسال رسالة لحكومة الجنوب مفادها (النظام في طريقه للسقوط فلا توقعي معه على شئ، فنحن قادمون وستجدون عرضاً أفضل)، فهل تخدع هذه الرسالة المفاوض الجنوبي هذه المرة كذلك؟... الله يكضب الشينة.