الجمعة فى حمد النيل يغلب على التصوف السودانى النزعة العملية كالمديح والمولد والذكر اكثر من الجوانب النظرية. وتختلف طرق الذكر بين كل طريقة واخرى، الا ان ذكر الطريقة القادرية العركية المشهوربال(العصا) نكهة خاصة. فبعد صلاة العصر من يوم الجمعة يتحلق المئات حول قبة الشيخ حمد النيل العركى المشيدة وسط المقابر. مجتمعين لحضور الذكر، مختلفين فى الدوافع والغايات. ووسط اجواء محاطة بالاسرار والاستار، ومشاهد لقبور الاموات، وحركة الاحياء، وحضرة من يتيه بين العالمين. يقام الذكر وسط رائحة البخور الممزوج برائحة الغبار المتصاعد بفعل اقدام المتحلقين. اما ايقاعات النوبة والطار فانها تسيطر على الاجساد، وتسعى للترويح عن النفس وتحريك الاحساس بالجمال المطلق. والعركية فى تحلقهم الاسبوعى امام الفناء الشرقى للقبة شيخهم حمد النيل بانقسامهم الظاهرى بين المتوحدين حول القباب والاضرحة والمسيد بزيهم البالى المرقع المعروف ب(خرقة الارادة)، والمتبركين بالقوم متوحدين داخليا للوصول لدرجة التخلص من كثافة الجسد والبدن لنقاء الروح والسريرة، ومساواة الظاهر بالباطن. ولا تحف البركة بأهل الذكر فقط بل تمتد لتصل كل من يجاور المكان، فعندما اردنا ان نشرب كوبا من القهوة، لم تكن (بنابر) ست الشاى كافية، اندفعت زميلتها فى المهنة وجارتها بما زاد عن مقاعد لنا، فابتسمت والتفت الى صديقى المصور البارع ايمن وقلت له (لقد زال شح النفس عن هؤلاء، فتخلقوا بشيم القوم). حلقة الذكر ووجود المئات خلقت مصدر رزق للبعض، فانتشر بائعو المسابح، وصور الاولياء، والكتب الدينية، والاطعمة والمشروبات الساخنة والباردة. وبين الجموع ينتشر عشرات الاجانب الذين جذبتهم عوالم الصوفية و جوها الروحى. الذى اصبح رهينا لسلطان النوبة التى استلبت عقول وقلوب العامة والخاصة. العيد.. وانت بعيد بعضنا قضى العيد بعيدا عن اسرته واحبابه، فعاشوا اجواء خاصة حتمتها عليهم ظروف عملهم، فضحوا بفرحة العيد من اجل الآخرين، واندرجوا بذلك تحت قول ود الامين (العيد الجاب الناس لينا ما جابك). وفى التلفزيون القومى كان العشرات يعملون بجهد من اجل امتاع متابعى الفضائية السودانية فى كل مكان. وخلف الكاميرات والمايكرفونات واجهزة المونتاج تحلق العشرات، بعيدا عن فرحة العيد واجوائه المفعمة بالحميمية. المخرج دخيل الله قضى (28) عاما من عمره منغمسا فى العمل، حتى فى العطلات والاعياد. ويذكر دخيل الله ان الكثيرين يتصلون به فى الاعياد ويقولون له (نحن فى خشم الباب.. افتح لينا) دون ان يعلموا ان الرجل معيد مع اسرته الاولى التلفزيون -على حد تعبيره-ويبتسم الرجل وهو يقول:(الوقت الذى نقضيه فى التلفزيون اكثر مما نقضيه مع اهلنا). ويلفت زميله المنتج علاء الدين الى ان العمل بالتلفزيون يحجم العلاقات الاجتماعية و(يدخلنا فى لوم شديد مع الناس). ويستدرك علاء الدين قائلا ان المتعة فى توصيل رسالة إعلامية تسعد المشاهدين هي عزاؤهم الوحيد. الابن سر جده رفض الطفل ابراهيم كل محاولات اسرته لاقناعه بارتداء جلابية العيد، مفضلا ارتداء (الكاكي). ربما لم يكن تصرف الطفل نتاجاً لعناد طفولى فحسب، بل قد يرجع لجيناته التى يسكنها حب الشرطة والوطن، ويقال الابن سر ابيه وربما جده. وهنا الراحل الفريق أول شرطة إبراهيم أحمد عبد الكريم مدير الشرطة السابق وركن من اركان الثقافة السودانية تسربت روحه واسمه الى حفيده، فشب على حب الشرطة والعسكرية. وان لم يكن مستقبل ابراهيم الصغير كجده فى الشرطة، فنرجو ان ينال حظا من ذاكرة وبصيرة سلفه. الجلابية اضحت جلابية العيد السمة الاساسية المميزة للعيد للصغار والكبار، احمد اختار ان يحتفل هذا العيد بالجلابية وملحقاتها، اضافة لتميزه عن اقرانه بالاحتفال واللهو بسيف صغير مميز. حين توصد الأبواب.. عيد خاص فى شوارع الخرطوم المقفرة ووسط الإمبراطورية السفلية للمدينة، عيد بطعم خاص. فمئات المشردين الذين يحكون قسوة المدينة التى استطالت أبراجها السكنية، وتزاحمت عرباتها الفارهة على الأسفلت. يعيشون حياة لا تتوافر فيها ابسط شروط الحياة الانسانية. جيمس ودينق ومطر ثلاثة شبان يتشاركون آلامهم ومعاناتهم تحت ظل شجرة. ولم ينسوا ان يحتفلوا رغم احنهم مع زميلهم مطر بالعيد ولكن على طريقتهم. فآدم تعرض لحادث حركة كاد يؤدى بحياته قبل عشرة ايام، ولكن الطاف الله سترته. اما رفيقه جيمس فلم يتوان عن مؤازرة مطر، ففى ليلة العيد تعرض بدوره لحادث، ولكن حظه لم يكن كرفيقه، فاصابته مضاعفة، ويظن الاطباء ان لديه كسراً فى مرفق يده اليمنى. ومع ذلك لم يجد رعاية صحية مناسبة فعند ذهابه للمشفى، طلب منه اجراء صورة اشعة بمبلغ (20) جنيهاً لم يكن ثلاثتهم يمتلكونها، فرفض المشفى اجراءها له، وقالوا له بالحرف الواحد (تعال لينا لما تلقى القروش!!). ولما كانت عطلة العيد سببا فى فراغ وسط المدينة من السيارات فقد اصبحوا بلا عمل، فهم يقومون بغسل السيارات. سالتهم الم تذهبوا الى الجهات التى تعنى بالرعاية الاجتماعية، قالوا لى لا قدرة لنا على الذهاب اليها، فالجوع يعطلنا عن الحركة، كما ان ابوابها موصدة امامنا. وابتسم مطر وقال بمسحة دينية بدت اكبر من عمره، واعمق من ألمه (لا رحمة لنا الا من الله، فهو لا ينسى عياله).