قد تجد أمثالاً شعبية بين الشعوب كثيرة تمتدح الجود والشجاعة وعزة النفس ولكن إذا قيل: «جعل عزاها الله» أي أعزها. - أو تجد: «والجعلي يعدي يومو خنق». - أي يصبر طول نهاره وهو مخنوق لا تسامحاً واحتمالاً للضيم ولكن ثباتاً وشجاعة أو قولهم: «أصل الجود جهينة وأصل الملك سنار والعز جعل». - أدركنا بلهجتها ومحتواها أنها أمثال سودانية بالميلاد وكانت أفكارها العامة تتردد بين شعوب كثيرة. هنا يأتي دور «القوة والجاذبية» التي تنسق التجارب الإنسانية وتتصرف فيها وتختار منها، وإذا استعرضنا الأمثال السابقة وجدنا أن هناك لوناً من السلوك والعمل لقيت من الحس الشعبي ترحيباً وتقديراً واهتماماً وألواناً أخرى لقيت منه نفوراً وسخرية وازدراءً، ومن الواضح ان هذا الحس الشعبي كان له أثر فعال فيما استقرت عليه الجماعات من مواقف معينة إزاء النظرات الإنسانية التي لا تخلو في بعض الأحيان من التنافر والاختلاف، والمعروف ان هناك شعوباً غريبة علينا تمسكوا بألوان من السلوك والعمل نستنكرها ولا نستسيغها لأن ظروف حياتهم وتجاربهم قد فرضت عليهم التمسك بها فإذا وجدنا تشابهاً واضحاً أو تجانساً بين الشعوب العربية ومن بينها السودان في مواقفها إزاء التجارب الإنسانية والسلوك الإنساني أدركنا أن هناك حساً شعبياً رقيباً أو قوة جاذبة تسمح بما يلائمها من أنواع السلوك والتجارب ولا تسمح في أغلب الحالات بغير ما استجاب له التراث العربي المشترك، فإذا انتهى اليها ما يعارضها جعلته مادة للتندر والسخرية ومثلاً للعبرة والعظة. وبفضل الحس الشعبي أو القوة الجاذبة تتجانس الأمثال بين الشعوب العربية وليس الطابع المحلي الناتج من اللهجة والمحتوى الإجتماعي بعائق يحول دون هذا التجانس بل هو ما يواكب الجوهر المشترك ويعززه وإذا رجعنا -على سبيل المثال- الى تلك الأمثال التي نسبت صفات الكرم والشجاعة وعزة النفس الى قبائل بعينها في السودان وجدنا ان هذه الصفات ليست إلا صدىً محلياً لما تعتز به الجماعات العربية في سائر الأقطار، هذا فضلاً عن كون اللهجات المحلية التي صيغت بها تنتمي في إطارها العام وفي عناصرها التي تقوم بها الى أصول عربية قديمة، ولهذه الأصول نظائر في سائر الأقطار العربية وهذا يعني ان محلية اللهجة والمحتوى مهما تكن من عوامل التنوع في التراث فهي تؤكد الجوهر القومي المشترك وتؤيده. أضف الى ذلك تجاذب الأمثال وتبادلها بين الشعوب العربية بنصها ومضمونها معاً وهو شاهد آخر على ما يصنعه الحس الشعبي من تقارب وتجانس في الحصيلة القومية للأمثال، فالتجانس لا يتحقق فقط في الأمثال التي تحمل الطابع المحلي في لهجتها ومحتواها، بل يتحقق كذلك في الأمثال المنتشرة بين الشعوب العربية المتطابقة بنصها ومضمونها اللهم إلا ما يحدث أحياناً في نصوص الأمثال من إبدال لفظ بمرادفه- أو تغيير طفيف في المعنى بتأثير التناقل الشفوي أو اللهجة المحلية واللغة الفصحى تلعب دوراً مهماً في هذه الأمثال وهي رباط وثيق بين هذه الشعوب.