إذا استبعدنا من الأمثال الشعبية كل ما يتعلق بالعناصر والمؤثرات القومية والمحلية، ونظرنا الى الأفكار العامة المجردة التي عبرت عنها الأمثال الشعبية وجدنا انها في أغلب الحالات تعبير عن تراث انساني مشترك لا يقتصر على شعب خاص ولا يستأثر به بلد بعينه. فالانسان الذي عبر عنه المثل الشعبي هو الانسان الذي يحس في كل زمان ومكان بعجزه وقصوره إزاء القوى العليا كما يحسب بتفوقه وامتيازه إزاء الكائنات الدنيا.. والإنسانية إذ تتجلى في المضمون العام لأمثال الشعوب تحمل في طياتها هذين المفهومين فهي تارة إنسانية عاجزة تتضاءل أمام القوة العليا وقدرتها وكمالها، فهي تتخذ منها السند والتأييد وتلوذ بعدلها ورحمتها، وتتطلع الى الكمال بمعونتها - وهي- تارة أخرى- إنسانية تعتز بسموها وتفوقها على سائر الكائنات الأرضية بما وهبت من عقل يميز بين المعروف والمنكر، وبصيرة تفرق بين الطيب والخبيث وفكر يتطلع الى المثل العليا، فالفكرة العامة في أمثال الشعوب كلها هي في جوهرها خلاصة تجربة إنسانية بهذا المعنى أو ذاك أو بها معاً. ومن الطبيعي ان نجد الأمثال الشعبية في السودان كالأمثال في أي بلد آخر تعكس هذا المضمون الإنساني بمفهوميه المشار اليهما معاً. فهي من هذه الناحية حصيلة تجارب انسانية مشتركة لا تميز شعباً عن شعب ولا بلداً عن بلد، ولهذا كثيراً ما نلتقي بأفكار متشابهة متضمنة في أمثال لمختلف الشعوب حتى الشعوب التي تكاد تنعدم بينها الصلات التاريخية. ولكن هناك مؤثرات وعناصر قومية ومحلية تتحكم في المضمون الانساني للأمثال بحيث تشكل منها حصيلة ملائمة للوسط الطبيعي والاجتماعي والثقافي الذي تعيش فيه الامثال زمناً ما طال أو قصر. هذه المؤثرات والعناصر تتكون على مدى الاجيال والعصور وتستمد كيانها من البيئات الخاصة لمجموعة من الناس وهي التي تربي أو تخلق في وعي الجماعة في نطاق مؤثرات الزمان والمكان ما يشبه الحاسة أو المزاج أو القوة الجاذبة التي تتصرف فيما يصل اليها من حصيلة فكرية والتي تختار مما يفد إليها من التجارب الإنسانية ما يلائمها، وتطرد أو تحور ما تراه غير ملائم لها. فهذه الحاسة أو القوة الجاذبة كفيلة بان تنتخب وتتصرف في هذه التجارب بطريقتها الخاصة لتشكيل حصيلة لها اتجاه ذوقي متميز عن سائر اتجاهات الحصائل الإنسانية. في سبيل إبراز هذا الإتجاه وتكوين هذه الحصيلة تمثل اللغة وطريقة التعبير التي تفصح عن المحتوى الاجتماعي والمستوى الثقافي لهذه الجماعات معالم اساسية لا غنى عنها. فالمؤثرات والعناصر التي تحدد إطار الحصيلة القومية والمحلية في الأمثال الشعبية تتعلق بالشكل الذي يظهر به المثل. وأثر الحاسة الشعبية التي تمارس التصرف والإنتخاب في المضمون الإنساني العام.. فليس من الصواب اذن ان يزعم زاعم ان الأمثال لا تعبر عن خواص البيئات والشعوب استناداً الى أنها خلاصة تجارب إنسانية عامة ذلك ان قوة المؤثرات والعناصر القومية والمحلية كفيلة بان تصهر ما تشاء من هذه الأفكار وتخرجه في شكل مميز فالأفكار العامة المجردة التي تضمنتها الأمثال الشعبية في السودان لا تقتصر على السودان ولا على سائر الشعوب العربية، فقد نجد لها نظائر في أمثال الشعوب الاخرى، ومع ذلك نرى في كل منها أثراً قومياً أو محلياً، يختلف في نوعه ودرجته باختلاف الزمان والمكان والمستوى الثقافي، بل نرى إطاراً واضحاً قومياً ومحلياً للمثل الشعبي في السودان مارست فيه الحاسة الشعبية عملها، ودمغته اللهجة المحلية بطابعها وغذاه المحتوى الاجتماعي بمادته.