حمزة وعباس أصدقاء وأولاد حي (واحد) درسا جميع المراحل الدراسية معاً وتم بعد تخرجهما تعيينهما كمحاسبين في وزارة المالية في يوم واحد.. بعد خدمة امتدت قرابة العقدين من الزمان تمت إحالتهما إلى ما يعرف (بالصالح العام).. ولأن (حمزة وعباس) كانا مثالاً للموظف (المسئول) فقد خرجا من الوظيفة ( صفر اليدين) لا يمتلكان من حطام الدنيا شيئاً. لم يمض عام واحد إلا وقد أبتسم الحظ (لحمزة) حيث غادر مغترباً للعمل كمحاسب بمؤسسة ألراجحي المصرفية فرع (القصيم) .. أما عباس الذي يسكن في بيت إيجار مع زوجته وأطفاله الخمسة والذين هم في مختلف مراحل التعليم فقد عاش مأساة حقيقية لم يستطع الصمود أمامها جعلت منه معاقراً (للخمر) ومدمناً لها .. ما أن تشرق شمس الصباح حتى يرتدي (عباس) ( جلابيته) الوحيدة المتسخة و(شبشبه) الوحيد ويتجه صوب ( الحُفر) مكان صناعة وشرب الخمر.. في ذلك اليوم جلس (عباس) وشلته اليومية في تلك (الراكوبة) . في منزل (عشة بنزين) كانوا يضعون أمامهم حلة صغيرة صدئة بها بعض العظام والمصارين والبصل.. كان ذلك اليوم هو آخر يوم عمل بالمؤسسات والبنوك والشركات والمصالح الحكومية إذ أن اليوم الذي يليه كان هو يوم وقفة عيد الأضحية .. بينما كانت الحلة (تجقجق) في النار كان (عباس) ساهماً يفكر في أطفاله وزوجته وكيف أن العيد سوف يمر عليه وهو فى هذه الحال المزرية غير قادر على توفير أبسط الإحتياجات لهم، كانت الساعة حينها تقترب من الحادية عشرة صباحاً وهو يجلس تحت تلك (الراكوبة) التى تنفذ من خلال سقفها أشعة الشمس حينما شاهد شبح صديقه (حمزة) يدخل متجهاً نحوه.. للوهلة الأولى أعتقد (عباس) أنه في حلم لولا أن (حمزة) أقترب كثيراً وقام بمعانقته معانقة حارة.. وبعد (حق الله بق الله) دعا عباس حمزة للجلوس إلا أن الأخير اعتذر بلباقة وأخبره بأنه سوف يقوم بزيارته بعد العيد إذ أنه سوف يقضي عطلة العيد مع أهل زوجته (بالقضارف).. أدخل (حمزة) يده في جيب جلابيته(السكروتة) وأخرج منها (دفتر شيكات) وشرع يكتب في شيك سلمه لعباس قائلاً: - معليش يا عباس انا عارف الدنيا قبايل عيد .. معليش ما معاي كاش لكن أمشي اصرف الشيك ده هسع من (بنك الخرطوم) عشان الليلة أخر يوم وبكرة إجازة .. إنصرف (حمزة) مودعاً بينما ترك (عباس) (الحلة) وشلتة وخرج على الفور إلى شارع الظلط (غير مصدق) وقام بالتأشير لأول تاكسي.. نظر إليه سائق التاكسي شذراً لأجل ملابسه المتسخة لكنه لم يابه لذلك. - بالله يا اسطي الخرطوم.. - وين في الخرطوم.. - بنك الخرطوم (الرئاسة) قدام زنك الخضار.. أثناء (المشوار) كان عباس سارحاً بخياله بما سوف يفعله بهذا (المليون)، تحت الشجرة المقابلة للبنك توقف سائق التاكسي.. - بالله يا أسطى معليش بس أصرف الشيك ده ونرجع أم درمان سوا.. لم يكن بالطبع لدى ( عباس) حق المشوار لذلك كان لزاماً عليه أن يطلب من السائق انتظاره ريثما يقوم بصرف الشيك.. دخل عباس إلى البنك في تمام الثانية عشرة بينما خفير البنك يقوم بقفل الباب الرئيسي.. وجد صفاً لا بأس وقف حتى جاء دوره.. سألته الموظفة وهي تمسك بالشيك: - وين بطاقتك يا حاج.. - (في دهشة وتلعثم): ما معاي بطاقة.. (وهي تعيد إليه الشيك): لازم تجيب ليك زول عندو بطاقة؟ خرج ( عباس) من الباب الخلفي للبنك بسرعة البرق ذهب إلى ( عكاشة الخضرجى) صديقه الذي يمتلك (دكان) لبيع الخضار بالزنك.. شرح له الأمر ولحسن الحظ كانت بطاقة عكاشة معه.. فقام بالحضور معه إلى البنك .. قام ( عباس) بتحنيس الخفير ليقوم بإدخاله وعكاشة بالباب الخلفى حيث سمح لهما بذلك، تبقى من الزبائن (خمسة أشخاص) وقف عباس في نهاية الصف حتى إذا ما وقف أمام ذات الموظفة أعطاها الشيك ومعه بطاقة عكاشة.. نظرت ذات الموظفة إلى الشيك ثم صاحت فى (خلعة): - سجمي دا ما على (شارع الجامعة)! -(عباس في ذهول): يعني شنو؟ -يعني إلا تمشي تصرفوا بعد العيد من فرعنا فى (شارع الجامعة). وهنا خرج عباس عن طوره وأخذ يلوح في عصبية (مضرية) بيديه في حركات متتابعة وكأنه يمسك بلجام (حصان) نزولاً وطلوعاًً.. - طلوعاً: شارع الجامعة شارع ال (شنو ما بعرف داك).. - هبوطاً: جيبو بطاقة جيبو (شنو ما بعرف داك).. وأخذ يكرر فى هذه الحركات اللا إرادية فى عصبية حتى تم الإمساك به من قبل (الحرس) وبعض الموظفين.. - كسرة : قيل والعهدة على الراوى أنه وبعد خروج عباس من البنك قد وجدوا أن الموظفة كانت تجلس على بحيرة من المياه لم يتطلب الأمر كثير (ذكاء) من الموظفين ليعلموا أن هذه المياه لم تكن عرقاً (صرفا).. كما قيل ان صاحب (التاكسي) قد قضى (أيام العيد) تحت تلك ( الشجرة) في انتظار عودة عباس..