.. كتب الدكتور عبد الله علي إبراهيم في صحيفة «الرأى العام» وفي مقاله الاسبوعي وعبر حلقتين، عن أحداث «بيت الضيافة» والمجزرة الفظيعة التي تعرض لها الضباط وقتئذ، ومات فيها قرابة العشرين ضابطاً قبل قرابة الأربعين عاماً. وكانت تلك القضية وستظل قضية مفصلية في تاريخ العلاقات السياسية «السودانية- السودانية».. وفي تاريخ الحركات السرية، وعلى الأخص الحركات العقائدية.. وتستمد هذه الأحداث أهميتها من أنها كشفت عن المدى الذي يمكن ان تنهى فيه السياسة العلاقات المهنية.. والعلاقات الانسانية.. وأن السياسة هي التي تبذر بذور الشقاق والحروب الأهلية. وقد أحسن الدكتور عبد الله علي إبراهيم في الكتابة عن هذا الموضوع المهم.. ولكننا نعتقد أنه كان يكتب على إستحياء في محاولة لرفع الحرج عن الحزب الشيوعي.. وربما أيضاً لرفع الحرج عن تاريخه الخاص. ---- بين عقليتين وتكشف المقارنة بين كتابات الدكتور عبد الله علي إبراهيم وكتابات الاستاذ المرحوم أحمد سليمان، عن فارق كبير بين عقليتين.. وبين شخصيتين.. علماً بأن إسهام الاستاذ أحمد سليمان عليه رحمة الله في تأسيس الحركة اليسارية.. وفي بذر بذور الحركة الشيوعية.. من المؤكد كان أكبر وأوضح من إسهام الدكتور عبد الله علي إبراهيم.. لكن الاستاذ أحمد سليمان حينما كتب عن تجربته، لم يكتب ليرفع الملامة.. ولا ليرفع الحرج عن نفسه.. وإنما كتب كتابة حقيقية نتيجة لشعوره بأن ما يكتبه يمثل شهادة لله، وشهادة للتاريخ وشهادة للوطن.. وأنه أراد ان يبرز للأجيال كيف تأسس الحزب الشيوعي في السودان.. وما هي أخطاء الحركة اليسارية.. وما هو الدور اليهودي في المد اليساري والشيوعي على وجه الخصوص.. ولذلك تجده قد ركز على «هنري كوريل»، كما ركز على حركة «حستو» أو الحركة السودانية للتحرر الوطني.. وركز على الحركة المصرية للتحرر الوطني.. والعلاقة بينهما.. وملّك المهتمين والشعب السوداني المعلومات.. وأهم عامل لمن يحترم عقول الناس، أن يملكهم المعلومات والحقائق. والدكتور عبد الله علي إبراهيم كمتخصص في التاريخ الأفريقي.. ومتخصص في «الفلكلور» .. وملم بالحيثيات السياسية، كان عليه ان يملك الأجيال الجديدة الحيثيات.. خصوصاً وهو الآن يستعد لخوض انتخابات رئاسة الجمهورية، ويدخلها من أبواب الأكاديمية رافعاً الراية العلمية. قوة أخرى ولكن ماذا قال الدكتور عبد الله علي إبراهيم؟.. قال الدكتور: ان مجزرة بيت الضيافة التي وقعت في يوليو 1791م ربما كانت وراءها قوة أخرى.. ومع أنه لم يسم هذه القوة الأخرى.. ومع إنه أشار لضباط الصف الذين عادوا الرئيس النميري هنا وهناك.. إلاَّ ان الإتجاه العام للمقال يقود إلى ان الحركات العنصرية التي كانت عاملة في الجيش السوداني.. وكانت عاملة في المجتمع السوداني، كانت وراء هذا العمل.. وأن هذه الحركات العنصرية التي كانت قوية وسط صف الضباط هي التي جعلت لصف الضباط إرادة للقيام بانقلاب مضاد.. وقام هذا الانقلاب على «فرضية» أن الرئيس النميري قد تم إغتياله «مظنة الدكتور»، وأنهم لكي يؤسسوا لمشروعهم العنصري، ويؤسسوا لدولتهم العنصرية، كان عليهم ان يبيدوا كل القيادات العليا الشمالية أو غير المنتمية لحركتهم العنصرية في الجيش السوداني لتأمين هذه الحركة.. ولذلك قاموا بتصفية المجموعة الموجودة في بيت الضيافة. وفي هذه المحاولة الجديدة التي تبرز لأول مرة بعد أربعين سنة بعد مجزرة بيت الضيافة، وعلى لسان الدكتور عبد الله علي إبراهيم يجدر بالعقول التي تتدارسها وتتسامعها ان تؤسس أولاً لبعض الاسئلة حتى تستطيع استيعاب الأطروحة والتيقن منها. ماهية الحراسة ولذلك نتساءل عن من الذي اعتقل أصلاً هؤلاء الضباط الكبار وزج بهم في بيت الضيافة.. والأمر الثاني يجب التساؤل والاجابة عن ماهية الحراسة التي كانت تشرف وتتحفظ عليهم.. وهل يعقل ان تكون هذه الحراسة غير منتمية لعقيدة منفذي الانقلاب.. وغير منضبطة ومستجيبة لتعليمات القيادة.. خصوصاً وأن المعلوم في الفكر والتربية العسكرية، ان تكون هناك تعليمات محددة في هذه الحالات، ومسنودة بسيناريوهات عديدة، كمثل إذا حصل تمرد فلتفعلوا كذا وكذا.. وإذا فشل الانقلاب والسيطرة على البلاد فلتفعلوا كذا.. كما أن ما حصل في «91 يوليو 17» كان انقلاباً عسكرياً مرتباً له، وليس تمرداً مدنياً أو انتفاضة شعبية حتى نحاول ان نحلل تحركات الجماهير والاستجابة لها. الإنتقائية.. لماذا؟!! ومهما يكن، فهذه محاولة طيبة لتسليط الضوء على ما حدث في يوليو 17.. ومطلب مشروع للمؤرخ ان يخاطب الحدث من حيثيات مختلفة حتى يصل إلى الحقيقة.. ولكن فيما يبدو ان الدكتور عبد الله علي إبراهيم كان انتقائياً، لأنه تعاطى مع عدد من الأسماء ربما كانوا من ذوي الجذور من المناطق المهمشة.. ولكن من المعلوم ايضاً ان الذين قاموا بمجزرة بيت الضيافة والذين تم إعدامهم فيما بعد، كان ورائهم ضباط معروفون وانهم من «المركز» وليست لهم صلة بالحركات العنصرية. ولكن فلنمض مع فرضية الدكتور عبد الله علي إبراهيم من ان هذه المذبحة قامت بها فقط حركة عنصرية.. ونقول له وهو يطالب بانشاء لجنة تحقيق للنظر في الحدث المؤلم، والخروج بإفادات وحقائق واضحة تروى لنا بعد أربعين سنة كيفية وقوعه وكشف خباياه.. الشيوعيون والعنصريون نقول له: لماذا لا يمتد التحقيق لأكثر من ذلك، بالنظر في صلة الحزب الشيوعي والحركات اليسارية عموماً بالحركات العنصرية.. منذ أيام جوزيف قرنق الذي أعدم في حركة يوليو ذاتها، إلى محاولات إختراق الحركة الشعبية بكوادر قوية لها صلات معروفة بالحزب الشيوعي، وهي كوادر معروفة ولم تتنصل عن صلاتها بالحزب الشيوعي.. وهي صفوف من الكوادر أصبحت اعلاماً في الحركة الشعبية وفي الحركات المتمردة بدارفور.. وان هذه الحركات الموصولة بالحزب الشيوعي وضعت أساس أجندتها تدمير الجيش السوداني وإضعافه. ولذلك، فإن السؤال المحوري الذي يجب الإجابة عليه: هل كان الحزب الشيوعي بعيداً عن الحركات العنصرية.. وهل كان الحزب الشيوعي بعيداً عن المرحوم فيليب عباس غبوش وعناصر مجموعاته.. وهل كان الحزب الشيوعي بعيداً عن الاستخبارات الأجنبية. ولنبدأ بتاريخ الحركات العنصرية في السودان منذ حركة الزنوج الأحرار التي كان وراءها المرحوم «أدهم» أو حركات الضباط في الجيش السوداني سواء كان قوامها القوميين العرب أو التي كان وراءها «محمود حسيب» ابن جبال النوبة، والذي ليست لديه صلة بالجينات أو بالعرق بالقوميين العرب.. وغيرها من الحركات كذلك التي كان يحتضنها حزب البعث العربي، والتي كان فيها ابن الخليفة عبد الله التعايشي نفسه، الذي مات في حادث انفجار الطائرة المشؤومة التي جاءت لنجدة حركة 91 يوليو 1791م وتم تدميرها في سماء السعودية أو البحر الأحمر وكانت تحمل دبابات وأسلحة. الحركات السرية ونسأل الآن الدكتور عبد الله علي إبراهيم عن دور الحزب الشيوعي في هذه الحركات السرية والعنصرية.. بل وقبل ذلك ما دور الانجليز والاستخبارات الاجنبية في هذه الحركات لأننا نجد ان الانجليز والحركات السرية كانت المشترك الأعظم بين الحزب الشيوعي وهذه الحركات العنصرية. وقد ورد في مذكرات كوادر الحزب الشيوعي الأوائل، أن الجندي الانجليزي «أوستري» كان من المؤسسين للحزب الشيوعي السوداني.. ونسأل الدكتور عبد الله علي إبراهيم ما دور اليهود والأرمن في الحركات اليسارية في السودان.. وهل الحزب الشيوعي السوداني كان يمثل جهداً سودانياً وطنياً خالصاً.. ام ان في الحزب الشيوعي إختراقاً ايديولوجياً محسوباً.. وما هو الدور الأكبر في تسيير حركة الحزب الشيوعي هل هو الدور الروسي أم البريطاني أم اليهودي؟! اليسار ولندن ولماذا كانت الأحزاب الشيوعية والحركات اليسارية تنتهي إلى لندن، ولا تنتهي إلى موسكو حينما تحل بها الأزمات والنكبات.. ولماذا نجد ان العديد من قادة الأحزاب اليسارية متزوجون من يهوديات وأجنبيات. والمطلوب من استاذنا الدكتور عبد الله علي إبراهيم ان يرسم لنا خارطة طريق بين دور «لندن» في تكييف الحزب الشيوعي وبين دور «موسكو»، وأيهما الأعظم. وحتى لا يقال أننا متحاملون على الحزب الشيوعي السوداني، ومتحاملون على الحركات اليسارية، نجد كذلك ان كثيراً من الأحزاب العقائدية وقعت في «فخ» توظيف الحركات العنصرية حينما فشلت في خطابها الأيدولوجي. الكتاب الأسود وربما كان أبرز مثل لذلك ما حدث بعد إنقسام الإسلاميين وظهور «الكتاب الأسود» الذي أتهم به الصف الخارج مع الدكتور الترابي.. وما يحدث الآن من غزل بين الدكتور الترابي ومجموعته وبين حركة العدل والمساواة.. ونحن نعلم ان جذور «الكتاب الاسود» لا تنتمي فقط إلى بعض ابناء دارفور من الاسلاميين، ولكنها نمت ونهضت وتغذت من ادبيات من كونوا المؤتمر الشعبي في السودان.. وان كوادره هي التي جاءت بالمعلومات وهي التي وزعت الكتاب.. وهي التي جعلت للكتاب نافذة في الشبكة العنكبوتية.. وأن كثيراً من رواد المؤتمر الشعبي تتكشف الأيام أنهم اصبحوا جزءاً أصيلاً من بناء حركة العدل والمساواة. لذلك، فإن هذا التوظيف للحركات اليسارية صحيح أنه موجود في كثير من الحركات العرقية.. وان البعثيين كما رأينا بدأوا بابناء جبال النوبة وحركوا «محمود حسيب» وهناك ابن الخليفة عبد الله التعايشي وعلاقته بنجدة انقلابيي 91 يوليو وغيرهم وغيرهم.. في سبيل تحقيق أهداف لا تمت بصلة للهامش.. ولا تمت بصلة للحركات العنصرية.. ولأنهم وجدوا في ابناء هذه الحركات، الفدائية والقدرة الحركية والعطاء الذي لا تحده حدود، فوظفوهم لهذا الدور. الشيخوخة السياسية والآن، فإننا نعتقد ان الحزب الشيوعي السوداني، هو المسؤول عن تدوير الحركات العرقية في السودان.. وأنه حينما استنفد طاقته الحضارية.. وطاقته الايدلوجية خصوصاً بعد إنهيار الاتحاد السوفيتي، وأفول نجم الماركسية أصبح دائراً في أفلاك الحركات العنصرية والحركات الهامشية لتدمير الدولة السودانية من مختلف المسميات والرايات.. ومن خلال مختلف المنطلقات، وعلى استاذنا الدكتور عبد الله علي إبراهيم ان يجرد قلمه بصدق، وان يكشف المشهد على حقيقته.. خصوصاً وأن الحزب الشيوعي أصبح مصاباً بالشيخوخة وفقدان الذاكرة.. وضياع البوصلة.. بل نسأل مع السائلين: أين هو الحزب الشيوعي هذه الأيام.. بعد ان استنفد جيل الشيوخ فيه طاقاتهم في الوصول الى اللجنة المركزية والمكتب السياسي ليجملوه ويجمدوه.. وأصبحوا مثل اصحاب «السجادات» يحاولون ان يورثوا تلاميذهم «البركة» المقلوبة.. أي -بركة الشيوعية.. ولكن بدون خط إصلاحي أو تجديدي أو «بركة» حقيقية. والشيخوخة التي ضربت الحزب الشيوعي ربما نراها تمتد الآن لقادة الأحزاب.. فقادة الاحزاب الآن ليست لديهم رؤية ولا شجاعة ولا فهم إستراتيجي.. فقط باتوا ينظرون لأحزابهم كمشاريع ذاتية صغيرة يتحركون في اطارها.. ويحافظون على مصالحهم فيها.. ومصالح أسرهم.. ويتعاملون كما يقال «برزق اليوم باليوم» .. أي -مشغولون بقراءة الصحف.. وكل تصريحاتهم وكل حصاد جهادهم أو نضالهم بات ردود فعل لقراءتهم للصحف.. مع العلم ان ردود الفعل هذه تمثل ثقافة سطحية و«جرائدية».. ولا يكادون ينشغلون بالقضايا المصيرية والمحورية التي تتطلب عمل المؤسسة وإندياح الفكر الجماعي المنظم. الهروب الكبير ولذلك نجدهم بالأمس يتحدثون عن عدم مشروعية الحكومة ويطالبونها بالاستقالة.. وحينما يقال لهم استقيلوا يهرولون هاربين إلى «مصر» .. مثل كبيرهم الذي هرب إلى هناك وترك دعوة الكلام عن عدم مشروعية الحكومة. ولأنه يعلم انه إذا جاءت الانتخابات فلا مكان له.. في الحكومة أو في المعارضة أو في البرلمان. إذاً، في هذه اللحظات التاريخية، من المهم ان يجرد المؤرخون والاستراتيجيون أقلامهم ويسلطوا الاضواء على المشاهد، لأننا نعتقد أن ما يعيشه السودان من تفتت.. وما يعيشه من جهوية .. وما يعيشه من ارتهان أقداره للعنصرية والقبلية إنما مرده للنخبة اليسارية التي زرعت ووظفت ذلك في برنامجها.. إذاً، القضية استاذنا الدكتور عبد الله علي إبراهيم ليست البحث عن مسؤولية مباشرة للحزب الشيوعي أو عدمها.. رغم اعتقادنا ان لديه مسؤولية مباشرة في مذبحة بيت الضيافة.. ولكن القضية الجوهرية التي يجب ان يسال فيها المداد وتشحذ فيها الاذهان، هل كان الحزب الشيوعي مسؤولاً عن تغذية الحركات العنصرية، وعن الحركات الجهوية، وعن الحركات العرقية؟ وأنه فعل ذلك في الماضي ويفعله في الحاضر.. وأنه ليس لديه للمستقبل مشروع، سوى تحريك نزعات العرقية والجهوية والعنصرية؟