الصورة التقليدية التي انطبعت في مخيلة أهل السودان عن المستشفيات العامة تتمثل في عدم وجود البيئة الصالحة لعلاج المواطنين وخاصة اولئك الذين تقتضي ظروفهم بأن يكونوا نزلاء في هذه المستشفيات لمدة قد تقصر او تطول حسب نوع المرض الذي يعاني منه الشخص، فقد كانت العنابر مكتظة اكتظاظاً شديداً وفي هذه الحالة لا يمكن أن يخلد المرضى للراحة، فهذا يئن انيناً متواصلاً وذاك يتأوه وهذا يصيح من فرط الالم. فمن أين للمريض المتعب أن ينعم بالنوم الهاديء؟ وكانت الروائح النتنة تنبعث من كل ارجاء المستشفى، فبعضها صادر من القمامة وبعضها من الصرف الصحي وفي هذا الجو كان الناس يتأففون من تناول الأكل في المستشفى الى جانب أن مستشفيات الامس كانت مرتعاً للقطط السمان منها التي تعيش على كميات الطعام الكبيرة التي يأتي بها زوار المستشفى ويتركون البقايا والفتات تحت الاشجار او في ممرات المستشفى. ثم دارت الايام وأصبح تلقي العلاج أو أجراء العمليات الجراحية في مستشفيات القطاع العام هاجساً مؤرقاً للمواطن المريض ولذويه، فقد كان عليه ان يسدد الرسوم وأن يحضر الضمادات والشاش والحقن والمحاليل وكل شيء يحتاجه الطبيب المداوي، وكان كثير من المواطنين يعجزون عن توفير تلك الاشياء المهمة. كانت كل تلك الصور الشائهة تدور في خلدي وانا اخطو داخل قسم الحوادث في مستشفى بحري وهو احد مستشفيات القطاع العام ويخدم جميع مناطق الريف الشمالي الممتد حتى الجيلي، فرأيت ما أدهشني. فما أن تلج داخل القسم حتى تطالعك أرضيات السيراميك الصقيلة اللامعة من فرط نظافتها والعناية الفائقة بها وقد شاهدت عدداً من العمال المثابرين وهم في زي موحد ممسكين بممسحاتهم في حالة حركة دؤوب على مدار الساعة ليزيلوا اي أثر تتركه الأقدام كما يبادرون بجمع أي اشياء يتركها المواطنون ولا غرو أن هذا الجو ينعدم فيه الغبار ولا وجود فيه البتة للاتربة، وهذا هو الجو الصحي الذي ينبغي توفيره في جميع المنشآت العلاجية، كما أن التهوية جيدة في الردهات والممرات والاجنحة التي زودت بأجهزة تبريد الهواء. وكنت اسأل نفسي وأنا انظر إلى هذا المشهد الرائع (أفى يقظة أنا أم في منام؟) وهل هذا مستشفى حكومي أم أحد أرقى المشافي العلاجية الخاصة؟ ام أنا في احدى صالات مطارات العالم الشهيرة؟ وكانت النقالات خلال السنوات الماضية قليلة العدد ويحمل المريض عادة شخصان من ذويه أو من الممرضين، اما اليوم فتوجد نقالات حديثة ذات عجلات يمكن لشخص واحد أن يدفعها في سهولة ويسر دون ان يحس المريض بأي تعب. كما انني رأيت في قسم الحوادث في مستشفى بحري عدداً من الكراسي المتحركة التي يشرف عليها عمال مختصون يحملون عليها المرضى إلى داخل المستشفى أو إلى خارجه. ويبلغ هذا المشهد الرائع ذروته عندما تدلف إلى الردهة الرئيسية في هذا القسم الحديث الذي يستقبل عشرات المصابين باصابات مختلفة نتيجة لحوادث طارئة ولكن الغالبية منهم من ضحايا حوادث السيارات التي أصبحت شراً مستطيراً ازهق ارواح الكثيرين من أبناء السودان وبناته وأطفاله وأورث اعداداً كبيرة عاهات مستدامة. وتتراوح الاصابات بين الجروح السطحية والكسور العادية والكسور المركبة، ويستقبل القسم ايضاً الاصابات الطارئة في مجال الباطنية وغيره من المجالات. ورأيت في هذا القسم ما سرني واثلج صدري فقد كان الاطباء والممرضون اشبه بنحل الخلية يعملون باهتمام وعناية ورعاية فائقة ولا يميزون بين مريض ومريض، فالجميع ينعمون بأعلى مستويات الاسعاف والرعاية الطبية ولم أر أي فرد يعمل بلا مبالاة بل كانوا جميعهم يعملون بكل التركيز والاهتمام ورأفة بالمرضى لا يقومون بعمليات خياطة الجروح إلا بعد حقنهم بالمخدر الموضعي وقد يجتمع على علاج مريض واحد عدة أطباء وممرضين إذا استدعت الحالة وقف النزف أو القيام بالاجراءات الضرورية العاجلة. وسرني أن رأيت هؤلاء الشباب من الاطباء والطبيبات والممرضين والممرضات يعملون دونما كلل أو ملل وكانوا يتفانون في اداء واجبهم ولم نر مثل هذا الحال في السابق إلا في ارقى المستشفيات الخاصة التي يدفع فيها المرضى المقتدرون الملايين. وسعدت كذلك بتوافر المعينات والادوات الطبية من ضمادات وشاش وقطن ومخدر موضعي وغير ذلك. وكل هذه الاشياء تقدم للمرضى من المواطنين بالمجان حسب توجيهات رئيس الجمهورية التي رأيتها تنفذ بالحرف. وعندما يعلم ذوو المرضى بإصابة فرد منهم ونقله إلى حوادث بحري يهرعون اليه في التو فيجدونه في ايدٍ أمينة حانية وقد نقل الى سرير مريح داخل المستشفى بعد ان ضمدت جراحه وجبرت كسوره وسكنت آلامه. وقابلت بقسم الحوادث في مستشفى بحري أحد الأخوة الذين كانوا يعملون سنين عدداً باحدى دول الخليج فقال لي وعيناه تشعان بالأعجاب والزهو (إن ما شهدته اليوم في قسم الحوادث بمستشفى بحري يضارع نظيراته من مستشفيات الخليج التي تغدق عليها تلك الدول الدعم السخي). وانا إذ اشيد بهؤلاء الشباب من الأطباء والطبيبات والممرضين والممرضات وهم ابناء وبنات السودان البررة الذين يضيئون جبين وطنهم الغالي- أرجو أن تقدم وزارة الصحة الولائية كل ما تحتاجه هذه المستشفيات من دعم وان تهتم وزارة الصحة الاتحادية بتحسين شروط خدمة الكوادر الطبية التي شهدناها تعمل باخلاص واهتمام بالغين وبمهنية عالية ولا يخالجني اي شك في أن كل شخص تتهيأ له زيارة هذا القسم سيقول لله در هؤلاء الشباب فأنهم يعطون ولا يستبقون شيئاً من خبراتهم وجهدهم ويبتهل إلى الله أن يجزيهم خيراً عن وطنهم ومواطنيهم فهم فتية وفتيات آمنوا بربهم ونذروا انفسهم لخدمة مواطنيهم فطوبى لهم. وبالأمس القريب قابلت أخوين زار احدهما مستشفى الخرطوم وزار الآخر مستشفى سوبا فاشادا اشادة تامة بما شاهداه من عناية ورعاية فائقة بالمرضى في هذين المستشفيين. كما اشادوا بالمستوى الرفيع من النظافة وتهيئة البيئة الصالحة لعلاج المرضى إلى جانب الاهتمام الكبير بالوجبات التي تقدم للمرضى في الاقسام المختلفة من حيث الجودة والنظافة. واستخلصت من كل هذا ان ثمة ثورة في الرعاية الصحية تنتظم مستشفيات ولاية الخرطوم، واملى ان تنداح هذه الثورة لتشمل كل أرجاء بلادنا الحبيبة لينعم بها جميع أهلنا الصابرين الذين هدهم ثالوث الجهل والفقر والمرض.