عندما سئل مؤلف الكتاب الدكتور عبد الحي يوسف: ما حكم من صرح ببناء الكنائس؟ نقل ما قاله علماء السلف في تقسيم امصار المسلمين الى امصار مصرّها العرب (المسلمون) وامصار فتحها المسلمون عنوة واخرى فتحوها صلحاً وحدد حقوق مواطني كل مصر من هذه الامصار من غير المسلمين، وحاول ان يضع السودان في واحد من هذه القوالب فكتب يجيب على سؤال: (هل فتح السودان عنوة أم صلحاً؟): (والذي يظهر ان معظمه فتح صلحاً فابن ابى السرح لم يتجاوز دنقلا بل لم يفتحها وصالح اهلها وما فتحت حتى العام 48ه ولم يتعد الفتح عنوة بعض الحدود الشمالية)! وقال: (واياً ما كان الأمر فإن التصريح ببناء الكنائس غايته ان يكون محرماً ولا يجوز، ومعصية كما ذكر السبكي (رحمه الله) وغيره من اهل العلم على ما سبق تفصيله، فينكر على صاحبها باسلوب يكفل زوال المنكر، وقد اتفق أهل السنة على انه لا يجوز الخروج على الحاكم العاصي فكيف بالمتأوّل؟ فكيف اذا كانت المسألة كلها محتملة؟).. وربما قال البعض رداً على الدكتور ان السودان اصلاً لم يفتحه المسلمون لا عنوة ولا صلحاً (لأن أبا السرح لم يتجاوز دنقلا) ولم يكن السودان في يوم من الايام مصراً من امصار الدولة الاسلامية إلا ما عرف عن علي دينار في دارفور، وربما يقول الشاب الذي كان يحاوره الدكتور بل فتح السودان عنوة على يد محمد علي باشا ممثل الخلافة العثمانية، وفتحه عنوة بعد ذلك غردون باشا وكيتشنر باشا وكل ذلك كان باسم الخليفة العثماني و(فرمانات) الباب العالي، ولماذا لا يتم تكييف اوضاع السودان باتفاقية الحكم الثنائي والتي وقعها ايضاً الخديوي ممثل الخلافة العثمانية؟ ولربما قال آخر ولماذا لا يتم تكييف اوضاع السودان باتفاقية الحكم الذاتي ودساتير السودان بعد ذلك والتي اجازها البرلمان السوداني الذي يمثل أهل السودان جميعاً مسلمهم وكافرهم؟ ولماذا يصبح السودان وغير السودان ملكاً للمسلمين اذا فتحوه عنوة - كما قال الدكتور عبد الحي: (ما فتحه المسلمون عنوة فلا يجوز احداث شيء من ذلك فيه «بناء البيع وضرب الناقوس وشرب الخمر واتخاذ الخنزير» لأنها صارت ملكاً للمسلمين)، ولا تصبح اي ارض فتحها غير المسلمين عنوة ملكاً لهم؟ وماذا لو قال البعض ذلك في حق اليهود في فلسطين وحق قوات التحالف في العراق وافغانستان؟ أوليست قيم الدين الاسلامي قيماً انسانية مطلقة؟ واذا كان ذلك كذلك فلماذا نمنع غير المسلمين من ممارسة شعائرهم الدينية وتنظيمها بحرية ونطالب غير المسلمين بأن يسمحوا للاقليات المسلمة في اوطانهم ان يمارسوا هذه الشعائر؟. وهل يصلح ما ذهب إليه الدكتور في تكييف اوضاع الاقليات المسيحية والوثنية في السودان؟. أم يحتاج علماء السودان الى اجتهاد آخر وتكييف يعتمد على مصادر الوحي لا اجتهادات السلف واختياراتهم الظرفية؟ ولماذا لا تقارن اوضاع الاقليات غير المسلمة باوضاع الجاليات اليهودية في دولة الرسول (صلى الله عليه وسلم) في المدينة الذين سبق وجودهم هجرة المسلمين ومنحتهم (الوثيقة) حقوق المواطنة الكاملة؟. يرى بعض الاسلاميين ان منهج استعادة (الخلافة) و(الدولة الاسلامية) يرتبط بالفكرة ذاتها ويبدأ بتأسيس هذه الخلافة والدولة على بقعة من البقاع ودعوة المسلمين الى الهجرة إليها وانطلاق هذه الدولة بعد ذلك في توسيع سلطانها عن طريق الفتوحات العسكرية وتأسيس علاقاتها مع الكيانات الاخرى انطلاقاً من ذلك، فهل هذا المنهج في تحقيق الحلم الاسلامي في عودة (الخلافة) ينطلق من تعاليم الشريعة الاسلامية؟ وهل القراءة الصحيحة للسيرة النبوية والتاريخ الاسلامي تدل على ذلك؟ وهل تعاليم الاسلام مسؤولة عن سلوك بعض الخلفاء المتأخرين والذين حولوا الدولة الاسلامية الى امبراطورية يشبهها البعض بالامبراطورية الرومانية والاستعمار الاوروبي، أو الامبراطورية الامريكية الحالية؟ واذا كان الأمر اجتهاداً فما هي الطريقة العصرية المناسبة لتحقيق العالمية في عصر تميز بتطور وسائل الاتصال والمواصلات وهيمنة المؤسسات والقوانين الدولية وعصبيات الدولة القطرية؟ هل الصيغ التي عرفها التاريخ الاسلامي في العلاقات الخارجية للكيان الاسلامي هي صيغ تنبع من الشريعة الاسلامية؟ أم هي اجتهادات تأثرت بالاعراف القائمة يومها؟ فقد عرف التاريخ قبل الاسلام عقود الذمة والحماية والجوار داخل المجتمعات العربية وفي علاقات بعض القبائل العربية مع جيرانهم، حيث كانت كثيرٌ من القبائل في شمال الجزيرة العربية تدخل في ذمة القيصر وحمايته قبل حماية الدولة الاسلامية! وهل استمر هؤلاء الذميون تحت حماية الدولة الاسلامية أم اندمجوا فيها واصبحوا بعد ذلك مواطنين كغيرهم؟ وهل كانت اتجاهات التشريع الاسلامي تحافظ على صيغة التوالي التي كان يعرفها المجتمع العربي قبل الاسلام ونجمت عنها ظاهرة الموالي والمماليك أم انه يسعى الى استبدالها بصيغ اخرى؟ وهل تتناسب هذه الصيغ الاجتهادية بمجتمعاتنا المعاصرة أم على علمائنا الاجتهاد في ايجاد صيغ مناسبة بديلاً عن ذلك؟ وقد اجمع علماء المسلمين على ان تعاليم الاسلام سعت الى تجفيف منابع الاسترقاق وان ذلك اتاح للشعوب غير العربية ان تسهم في تأسيس الحضارة الاسلامية وان تتولى أمر الدولة بعد ذلك على الرغم من ان العصبية والهوى لم يجعل هذا التداول يتم بطريقة سلمية.