هناك ما يجمعنا مع الولاياتالمتحدة وهناك ايضا ما يفرقنا. اتفاقية السلام الشامل من اهم الانجازات التي توحد المصلحة الوطنية السودانية والاهداف الامريكية. البيان الذي نشره البيت الابيض يوم 01 يناير باسم الرئيس جورج بوش وثيقة ذات مغزى. قال الرئيس انه فخور بالدور الذي اضطلعت به بلاده في تحقيق الاتفاقية وانه ملتزم تماما بمساعدة الشريكين على انفاذ البنود كافة. ذكر البيان ان تقدماً كبيراً حدث مثل تكوين حكومة الوحدة الوطنية واقتسام الثروة ووقف العدائيات. رصد ايضاً التحديات المتبقية مثل التعداد الضروري لانتخابات العام القادم ومثل ترسيم الحدود وانسحاب القوات من المناطق المتنازع عليها. خلص البيان إلى ان اتفاقية السلام قد ارست دعائم السلام الراسخ والوحدة للسودان كله وانها تمثل محور الالتزام الامريكي تجاه السودان. نعم، ذكر البيان السلام والوحدة للسودان. كما ذكر توجيه الرئيس لمبعوثه الخاص الجديد السفير رتشارد وليامسون ان يعمل على دعم جهود السلام في دارفور وعبر عن قلق الرئيس لمعاناة المواطنين في دارفور من جراء «الهجوم الذي تشنه الحكومة والمتمردون». يواصل البيان فيؤكد اهمية قوة حفظ السلام بالاضافة إلى حوار سياسي جاد لوضع حد للأزمة الناشبة. هذا هو الموقف الامريكي الرسمي الحكومي، هناك آراء ومواقف تعبر عنها عدة اقلام وعدة مراكز ابحاث وجماعات تحريض وتعبئة وحقد يقف خلفها اكثر من «لوبي» حسن التمويل. تدعو هذه لتفتيت السودان واطاحة حكومته. لا تريد للانتخابات ان تجري وتحاول اعادة اشكال الحرب في الجنوب وتحرض المتمردين في دارفور على مواصلة القتال ورفض التفاوض. ايهما نصدق: بيان البيت الابيض ام حملات اعداء السودان التي تفلح في فرض عقوبات وحظر؟؟ كلاهما امريكا! الخيار العاقل امامنا هو ان نستمسك بما يجمع ونرد على «امريكا الاخرى». القدال مؤرخ سوداني رائد بوسع المرء ان يقسم المؤرخين السودانيين في عصرنا هذا الى ثلاثة أقسام: جيل مكي شبيكة الذي حرص على الدقة في الاستقصاء والتحقق والتسجيل الامين دون تفسير او تحليل. ثم جيل يوسف فضل حسن الذي انتقل الى مرحلة اخرى هي التنقيب تحت الوثائق وربط الماضي بالحاضر واستطلاع وضع السودان في محيطه الافريقي والعربي. هناك ايضا جيل ثالث يمكن ان نسميه جيل محمد سعيد القدال الذي نعاه الناعي قبل يومين. لا يعرف كثيرون ان الدكتور القدال بدأ الظهور في الحياة العامة كشاعر وله قصيدة طلية في وصف فتاة ترقص «في السباتة». يبدو أنه اقتنع بأنه لن يبلغ في الشعر شأن صلاح احمد ابراهيم والحسين الحسن اللذين كانا معه في تيار اليسار، فزهد في الشعر وهجره. خاض في السياسة الحزبية الا ان زملاءه امثال عمر مصطفى المكي ومصطفى خوجلي ومحمود زروق كانوا يحتلون المقدمة. وجد القدال ضالته في التاريخ فغاص فيه واتجه وجهة اراد ان يتجاوز بها حدود جيل يوسف فضل حسن. حاول ان يؤرخ من وجهة النظر الماركسية ووجد تفسيره للثورة المهدية تقديراً حتى من كبار الاساتذة البريطانيين الليبراليين مثل البروفيسور بيتر ودوارد. كان القدال مبتكراً اذ حاول ان يؤرخ لجذور الرأسمالية السودانية فكتب عن صعود نجم الشيخ مصطفى الامين وبدأ في جمع المعلومات عن آخرين. وكان على المستوى الشخصي ودوداً متسامحاً بعيداً كل البعد عن التشنج والعنف. يلبي دعوات السفارات الاجنبية - بما في ذلك السفارة الامريكية - في المناسبات الثقافية او الاجتماعية الجامعة ولا يرى في ذلك عمالة او عاراً. ولي مع الفقيد ذكريات تدل على مثابرته واصراره. زرت مدير مكتب مدير جامعة الخرطوم الاستاذ صلاح حاج علي وقلت: لقد عدت للجامعة ولدي من الابحاث ما يكفي للتقدم للترقية لدرجة بروفيسور (من بروفيسور مشارك) لكنني بلغت الستين فهل تسمح لي اللوائح بذلك؟ قال: اللوائح لا تسمح لكن الابحاث يمكن ان تقدم لمدير الجامعة الذي سوف يكون لجنة تنظر فيها لترفع توصية بأن تعامل معاملة بروفيسور دون ان تحمل اللقب. لكن افضل من يفيدك هو الدكتور القدال فقد شرع في طلب كهذا. ذهبت للقدال فقال: هذا صحيح لقد جمعت كل شيء وسآخذ الابحاث لمدير الجامعة. قلت: لن تمنح اللقب رسميا بسبب حاجز العمر! فقال: سأتقدم وأرى. رحم الله الاكاديمي المؤرخ محمد سعيد القدال فقد عرف بالوفاء وحافظ على الوشائج التي بدأها والده في اليمن وترك لنا مؤلفات قد يختلف البعض معه حولها لكن جديته تفرض على الجميع ان يحترموا اجتهاده ويأسفوا لوفاته. وحينما ينعقد مؤتمر الحزب الشيوعي - المؤجل - فأن تيار الحكمة والاعتدال الذي كان القدال احد رموزه سوف يحس بالخسارة والنقصان، لا سيما وان معتدلاً آخر هو الدكتور فاروق كدودة قد وورى الثرى قبل ايام.