عندنا في السودان تُعرف السخينة بحساء او اكل المساكين المُمعنين في الفلس (حمانا الله وحماكم). وفي عهد الرسول الكريم (صلي الله عليه وسلم) كان الناس يأكلون حساء السخينة عند الشدة والجدب. وكانت العرب تكني قريشا بالسخينة تعييراً لها وتهكماً من إكثار القريشيين من أكل السخينة. ومن اجمل أبيات الشعر التي قرأتها في حياتي البيت الذي تهكم فيه شاعر الرسول (صلي الله عليه وسلم)، كعب بن مالك، من تبجح قريش في سعيها للإستئصال دين الله وإطفاء نوره، إذ قال: زعمت سخينة ان ستغلب ربها *** فليغلبن مغالب الغالب وفي رواية أخري: جاءت سخينة كي تغالب ربها *** فليغلبن مغالب الغلاب ومن الاشياء الرائعة في السيرة النبوية تبليغ رسول الله (صلي الله عليه وسلم) رسالة مباشرة من رب الارباب المولي جلّ وعلا الى الشاعر كعب بن مالك تعبراً عن استحسانه سبحانه وتعالي لهذا البيت من الشعر. إذ روي أن رسول الله قال لكعب: أترى الله نسي قولك: زعمت سخينة أن ستغلب ربها *** وليغلبن مغالب الغلاب! أيضا من اجمل أبيات الشعر العربي، بيت شاعر الرسول (صلي الله عليه وسلم) حسان بن ثابت الذي يقول فيه: ما إن مدحت محمدا بمقالتي *** ولكن مدحت مقالتي بمحمدا نعم، سبحان ربي الرحمن... خالق الانسان، معلمه البيان، الذي خلق الشمس والقمر بحسبان وجعل النجم والشجر يسجدان. عندما كنت غلاماً يافعاً، كان والدي (رحمة الله عليه) يعلمني اصول الفقه ويعرض علي قضايا فقهية ويطلب مني ان أدلي برأيي فيها. وكان يصححني عندما اخطيء واحيانا يختلف معي في الرأي ويقول لي ضاحكا (انت ما انصاري سنة... بس ما عارف روحك ساكت!). وكنت أسأله من هم انصار السنة؟، وكان يرد علي بأنهم ناس (رأيهم دايما زي رأيك). وعندما كبرت وعرفت من هم انصار السنة المحمدية، علمت مقدار وأهمية العمل الذي يقومون به. وبالرغم من انني اعتقد أنهم لم ينجوا من المرض الذي يصيب الجماعات الاصلاحية التي تحتاج نفسها للإصلاح لتجديد رؤاها، الا انني لا ازال من محبي انصار السنة المحمدية وأقدر العمل الجيد الذي يقومون به وتصديهم للتنطع والغلو. فنحن في السودان مصابون بداء الفكر المنحدر من المتصوف الاندلسي محيي الدين بن عربي. وعندما إطلعت على كتاب دانتي الإيطالي »الكوميديا اللإهية« تذكرت حلقات الصوفية في ليالي المولد التي تقام في مساجد السودان، فدانتي متأثر بإبن عربي وشطحاته. واذكر أننا في سن الطفولة كنا نُنصت للمبالغات التي تروى عما دار في ليلة الاسراء والمعراج بنصف اذن لقناعتنا الفطرية بأنها تخالف العقل وتنافي اصول الدين، وكتاب »الكوميديا الإلهية« فيه اقتباس كبير من منظور محيي الدين بن عربي لما يعتَقد بأنه جرى في ليلة الاسراء والمعراج. وبالرغم من أن الشعب السوداني قد خطا خطوات معتبرة في طريق الفكاك من ترهات إبن عربي، الا انني اعتقد اننا في هذه الايام نعاني من إنتكاسة في هذه الصدد. فدق الطار والنوبة (كما تقول بالعامية) في الاذاعة والتلفزيون اصبح شيئا تتاح له مساحات زمنية مقدرة. وكثير من الناس لايدري ان ما يسمى بالمديح عندنا فيه ما يخالف اصول الدين ويتعارض مع صريح العقيدة. وقد استهجنت مقالا ورد في صحيفة محسوبة على الحركة الاسلامية الحديثة أبدى فيه كاتبه استحسانه لأبيات إبن عربي التي يقول فيها: الا ياحمامات الأراكة والبان *** ترفقن لا تضعفن بالشجو أشجاني قد صار قلبي قابلا كل صورة *** مرعي لغزلان ودير لرهبان وبيت لأوثان وكعبة طائف *** وألواح توراة ومصحف قرآن أدين بدين الحب: أني توجهت *** ركائبه فالحب ديني وإيماني فمثل هذه الابيات، مهما نمقها الفوضويون the anarchists من من يُسمون بدعاة everything goes اي (كلو ماشي يازول)، لا تعدو ان تكون تعديا صريحا على مفهوم التوحيد الذي هو لب العقيدة ومخ نخاعها. فالمعيار الصحيح ان كل مادح لمحمد بمقالة يمدح في المقام الاول مقالته بمحمدا. وكيف يُمدح (صلي الله عليه وسلم) بما يخالف صريح العقيدة ويجافي اصول الدين؟ والى الذين يعتقدون بالرأي الخطل القائل بأنها الحرية... وكل زول له الحرية في الرد علي ما لا يعجبه...، اقول: هل تدرون كيف تُلوي القوانين في الدول الغربية لكي يُمنع المسلمون من امتلاك اذاعات تدعو الى الاسلام مباشرة عبر موجات الراديو واثير التلفزيون؟! وكيف تترصد اجهزة الأمن نشاطات المتنطعين الحائدين عن الأطر المعروفة للدين المسيحي لكي توقع بهم في اقرب فرصة ممكنة؟ وحتى الفرق الموسيقية التي تقدم اغانٍ مشينة او داعية للعنف تجد ان اجهزة الأمن تجتمع مع أفرادها وتحذرها بالويل والثبور ان لم تكف عما تفعل. ان امر الاذاعة والتلفزيون امر آخر وذلك لخطورة تأثيرهما على عقول الناس وأن موجاتهما تصل الصغير والكبير. نعم، وإن لكل مجتمع ثوابت يشكل التعدي عليها تمزيقا للنسيج الاجتماعي لهذا المجتمع والحرية اذا أتت من غير ضوابط فهي الفوضي بعينها. وآخر القول نصيحة اهمس بها في أذن من يريد ان يغالب الغلاب: لاتنسي قول الشاعر كعب بن مالك ... »وليغلبن مغالب الغلاب«