لابد أن نسجل هذا التناقض العجيب فى البيئة العربية، والدولية. فقد لوحظ فى البيئة العربية ارتفاع الأصوات المطالبة بالتطبيع العربى مع إسرائيل رغم كل ماتعلنه وتقوم به، مكافأة لها على التهام الحقوق العربية، ونفس هذه الأصوات التى تهاجم المقاومة العربية هى نفسها التى تمنت أن تجهز إسرائيل على حزب الله وحماس خلال المواجهات الغادرة لإسرائيل فى لبنان 2006، وغزة 2008_2009. واكب هذه الأصوات إشاعة مناخ اقتراب التطبيع الرسمى مع إسرائيل من خلال التصريحات الإسرائيلية والأمريكية لتشجيع إسرائيل على تجميد الاستيطان بعض الوقت، رغم أنها أعلنت عن المزيد من الاستيطان، وأخرجت القدس من دائرة التجميد الوهمى المزعوم، وكأن العالم العربى قد عقد العزم على تقديم الاعتراف قربانا لإسرائيل، وهو الشعور السائد، الذى لم يبدده تصريح السيد عمرو موسى الأمين العام للجامعة العربية يوم 6/9/2009 فى المؤتمر الصحفى المشترك مع السيد خالد مشعل فى مقر الجامعة العربية. وتزداد المرارة من إشاعة هذا الانطباع كلما أدركنا أن حساسية المنطقة العربية للتوجيهات أو الرغبات الأمريكية والإسرائيلية هو الإعلان الرسمى عن القرن الصهيونى والانتصار الرسمى للمشروع الصهيونى على النظم العربية بقطع النظر عما لحق بهذا المشروع على المستوى الاستراتيجي خلال المواجهات بينه وبين المقاومة العربية. على الجانب الآخر، أدت محرقة غزة إلى مواجهة قاسية لإسرائيل وتحد هائل لمشروعها القائم على الإجرام والتطهير العرقى والإحلال محل الشعب الفلسطينى، وفوجىء العالم فى هذه المحرقة بأنها أقسى من محرقة اليهود فى ألمانيا وأنها تمت بتخطيط وانتقام واستهتار بأرواح البشر وبشكل يحمل كل معانى الإبادة فسقط القناع الأخلاقى عما تسميه إسرائيل جيش الدفاع الإسرائيلى وتبين للعالم أن إسرائيل بالفعل جيش تستر فى دولة فقدت كل اعتبار معنوى فصارت أقرب إلى سلوك العصابات الاجرامية. وهكذا سقطت صورة إسرائيل الوديعة المتحضرة الديمقراطية أمام مشاهد الإبادة للبشر والحجر وقتل الأبرياء والإتجار فى أعضائهم البشرية واعترافات الجنود الإسرائيليين أنفسهم بجرائمهم التى أثقلت ضمائرهم واعتزاز القيادة الإسرائيلية بهذه المخازى وتصويرها على أنها بطولات. كانت النتيجة أن الأطقم الطبية الأوروبية التى زارت غزة وممثلى المنظمات الإنسانية قد سجلوا جرائم إسرائيل وتطوعوا برفع الدعاوى ضدها فى المحاكم الأوروبية والدولية، وتوالت بعثات التحقيق الدولية وآخرها بعثة جولد ستون التى تعمل بناء على تقرير البروفيسور ريتشارد فولك الممثل الخاص لمجلس الأممالمتحدة لحقوق الإنسان فى ضوء هذه المشاهد الإجرامية اتجه العالم إلى إدانة الوحشية الصهيونية والسعى إلى تقديمهم للعدالة الجنائية وحدثت احتكاكات قاسية بين الكثير من الدول الأوروبية وإسرائيل ونما اتجاه مقاطعة إسرائيل تجارياً وجامعياً وعلمياً توطئة للمقاطعة السياسية. فقد كتبت مستشارة سفارة النرويج فى الرياض فى الصحف النرويجية أن أحفاد الناجين من الهولوكوست هم الذين ارتكبوا الهولوكوست فى غزة دون ذنب أو جريرة، كما أدلى وزير خارجية النرويج بتصريحات غاضبة دفعت سفيرة إسرائيل إلى الاشتباك مع المسئولين النرويجيين. وفى النرويج أعلن فى أوائل سبتمبر 2009 عن سحب استثمارات بملايين الدولارات عن شركة إسرائيلية لضلوعها فى بناء الجدار العازل، حيث أوقفت شركة ُElbit Systems Ltd الاستثمار فى صندوق المعاشات فى إسرائيل بسبب ما استشعرته الشركة من قلق أخلاقى ethical concerns من استغلال أموال الصندوق فى بناء الجدار، ولما احتجت إسرائيل أكد وزير الخارجية أنها شركة خاصة لا سلطان للحكومة عليها. وفى الدانمارك أقامت جمعية كسر الصمت التى يرأسها يهودا شاؤول وهو جندى سابق فى الجيش الإسرائيلى معرضاً لصور الجنود الإسرائيليين التى التقطوها لأنفسهم وهم يرتكبون الجرائم فى غزة، فضلاً عن اعترافات تفصيلية للجنود والضباط على مواقع الأنترنت. وفى تورونتو كندا أعلن عشرات الفنانين من مختلف أنحاء العالم مقاطعتهم لمهرجان الأفلام الدولى احتجاجاً على قبول إدارة المهرجان عرض عشرة أفلام إسرائيلية لتلميع صورة إسرائيل التى شوهت فى غزة، متجاهلا معاناة الشعب الفلسطينى على يد الجيش الصهيونى. وفى بريطانيا طالب اتحاد العمال إعادة النظر فى علاقته بالهستدروت الإسرائيلى، وقرر فرض حظر على استيراد البضائع من المستوطنات الإسرائيلية فى فلسطين ومقاطعة البضائع التى تسوقها شركات ذات علاقة بالاحتلال. أما السويد، فقد تابعنا مقالات الصحفى الشجاع نوستروم الذى سجل فيها تجربته الشخصية مع الاتجارالصهيونى فى الأعضاء البشرية للشهداء، وكيف أن هذه المقالات أفزعت إسرائيل فصعدت التوتر مع السويد التى رفضت الاعتذار وأكدت حرية الصحافة واحترام الدستور السويدى، بل إن وزير خارجية السويد ألغى زيارة كانت مقررة لإسرائيل احتجاجاً على الموقف الإسرائيلى ورفض اتهام السويد بمعاداة السامية. تواكب ذلك مع ترتيب التليفزيون الأسبانى مقابلة فى أوائل سبتمبر 2009 مع مؤرخ بريطانى ينكر قصة المحرقة من أساسها. ترى، ماهو السبب فى تصدى العالم لإجرام إسرائيل، بينما حصار العرب لغزة لايزال قائما ورضاهم عن المحرقة في غزة أصبح واضحاً وارتفاع أصوات بعضهم للتطبيع مع إسرائيل صار فضيحة، فكيف تفسر هذا التناقض المعيب بعد أن كنا نتباكى على خداع إسرائيل للعالم وسطوتها على الإعلام الدولى ؟.