دخلت السيارة السوداء التي تحمل لوحة دبلوماسية صفراء بوابة منزلي الجبلي، كنت اقف في الشرفة انتظر ان تنفتح الابواب لتطل من جوف الحديد الاسود الجميل ثلاث قامات فارهة، الأولى لصديقي سفير السودان في بيروت (كاب الرفيق) والثانية للصديق اللبناني الطيب (منذر سماقيه)، اما القامة الثالثة فكانت لرجل يمنحك في اطلالته الأولى هدوءاً يمور بشتى اللغات، انها القامة السودانية التي يتكثف فيها المعنى كما يتكثف العمر ليبقى الطفولة برقعا ازليا على الوجه الذي يقدم ابتسامة كمقدمة الكلام. محجوب شريف اسم له مكانه المميز في وجدان الشعب السوداني، وأحد كبار شعراء العامية في السودان، «نجم السودان» و»نيرودا السودان» وغير ذلك من الألقاب، هكذا إبتدرناه في بداية الجلسة الجميلة والمدهشة التي جمعتنا به في مدينة الشارقة بدولة الإمارات العربية المتحدة - مع مجموعة من الأصدقاء من دول عربية مختلفة، جاءوا مرحبين بالشاعر السوداني الكبير في إمارة الثقافة، التي جاءها زائراً بدعوة من مجموعة نادوس الثقافية بخصوص مشروع «رد الجميل». ----- كما يتحدث عنه أصدقاؤه من البلاد العربية والأفريقية الأخرى، لكنه يقول دائماً وفي كل مكان ومجلس «أنا واحد من شعراء العامية في السودان ويكفيني ذلك». على الرغم من كل عذابات السجن والاعتقال، ما زال محجوب شريف الاسم الكبير معلماً يتوق إلى العودة لممارسة مهنة التعليم التي أبعد عنها قسرياً منذ يوليو 1971، ولم يعد إليها إلا بعد إنتفاضة مارس - إبريل 1985 لمدة أربع سنوات، وحرم منها مرة أخرى، إلى اليوم، وبعد بلوغه سن الستين ما زال مصراً على حقه وحنينه إلى مهنة التعليم، ويبدو أنه سيبقى يطالب بهذا الحق، وملامح الوطن الذي ظل يغني له عشرات السنين. محجوب شريف، شاعر الشعب - وهو اللقب الأحب الى قلبه، يستمد ثقافته وعلمه من الحياة اليومية وليس من بطون الكتب- على طريقة المثقفين. محجوب شريف، يكتب ويفضل الكتابة بالعامية، بل وإشتهر بها، وهي ما يمكن تسميتها بعامية المدينة، باعتبار أن الشعب السوداني متعدد الثقافات والأديان، لذلك يصبح من باب الاستعلاء العرقي والثقافي التحدث عن عامية واحدة، لأن هناك لغات أخرى غير العربية حاضرة في كافة أنحاء السودان. يرفض محجوب شريف توصيفه بأنه نجم السودان ونيرودا السودان، مؤمناً بأنه «مكابر من يتحدث عن نفسه، وظالم بحق الآخرين». فكرة المنظمة خطرت فكرة منظمة «رد الجميل»، وهي الأولى من نوعها في السودان، وربما المحيط الخارجي الأفريقي العربي بأكمله أثناء مرضه، قبل نحو سنتين أصيب بمرض تليف الرئتين، وذهب إلى لندن في رحلة علاج، وهناك نبتت فكرة مشروع رد الجميل، وهناك اكتشف- فيما يكتشفه الشاعر الكبير مثله- حجم المحبة والرعاية والتضامن والدعم من كافة أبناء السودان، فكان أول ما فكر به هو رد الجميل. إن مشروع أو منظمة رد الجميل هي مؤسسة طوعية أهلية خيرية، عنوانها العريض والرئيسي هو أنه يمكن لنا كسودانيين أن نلتقي على أرض مشتركة بغض النظر عن المواقف الأيديولوجية والعقائدية، والهدف هو محاولة جمع السودانيين على فعل الخير. ينفي محجوب شريف دائما وبإنفعال واضح إرتباط المنظمة بحزب محدد، أو تسييس المنظمة ومحاولة إيجادها كغطاء، فكل من يقترب من مشروع رد الجميل يعرف على الفور، ويلتقط إشارات ان هذا المشروع الإنساني الكبير ليس منبراً حزبياً او سياسياً ولن يكون كذلك، فهو موقف أخلاقي وإنساني، وتعبير عن من يرد الجميل، يكون قد تلقى سلفاً خيراً ويداً كريمة. من المعروف- ومن قبل فكرة أستاذنا الكبير محجوب شريف، وسيكون كذلك بعده- أن قيمة رد الجميل تكمن في أنها تعيد ذلك الفضل الإنساني، وتعزز من قيمة التضامن الإجتماعي، وفي « رد جميل محجوب شريف» تؤسس عليه نشاطاً منظماً لمصلحة من هم في غياهب التهميش والدونية والبؤس، فمناصرة هؤلاء هو رد جميل لأناس بسطاء ومساكين قد يرون أنهم لم يفعلوا شيئاً، بالرغم من أن حبهم الكبير لشاعرهم هو اجمل هدية له. محجوب يفلسف ذلك، على لسان كل المبدعين في بلادي، والذين دائماً تنفعل معهم مع مشاكلهم خاصة الصحية أعداد كبيرة من جماهير الشعب السوداني الذي يحب رموزه ويبقى، أن الذين يآزرون المبدع في محنته أيام المرض هم آلاف السودانيين والسودانيات في الداخل والخارج. ولا أحد منهم ينتظر هدية أو مكافئة أو ثوباً أو حلوى لطفله، و هو بالتأكيد إرثٌ عززه الشعب السوداني، ومن هنا فإن رد الجميل هو تعزيز لتلك القيم، وبالتالي يكون الشاعر والمبدع في عمومياته واللصيق بشعبه على وجه الخصوص إذا لم يفكر برد الجميل لهم فهو مستبد ومكابر ومغرور. بتلك الفلسفة الإنسانية الحقيقية العميقة، والمتجذرة في وجدان الشعب السوداني، ولدت منظمة رد الجميل ولدت في العام 2006 وفكرتها الرئيسة عبارة عن دعوة ونداء. رد الجميل كقيمة هي أحد الأهداف الكبرى المطلوب ذيوعها وانتشارها واعتمادها سلوكاً أخلاقياً وإنسانياً. ومن بين أهم الرسائل، إن الذي يحفظ الجميل ويفكر في رده هو إنسان قادر على العطاء ومستحق له. ويمكن أن يكون أيضاً أحد وسائل استنهاض الهمم بعيداً عن الإحباط والمسكنة والعزلة وهي فكرة تتيح لكل سوداني في أي مكان في العالم أن يفكر في رد الجميل لوطنه. رد الجميل منظمة طوعية لا ربحية ولا حزبية ولا سياسية وليست رافداً لأي تيار سوى القيم الخيّرة». فلسفة وخبرة مواصلةً لفلسفة الفكرة نقول أن منبعها ومصبها جمع ما تراكم من خير في تعددية الشعب السوداني وتنوعه الثقافي والعرقي والديني التي يمكن إذا أُحسن النظر إليها بمنظور أكثر انفتاحاً لكانت مصدراً لخير وسلام يعزز الوحدة والتنوع ويحفظ الوطن من شر التمزق القائم على ما هو عرقي وديني وهيمنة على ثروة الوطن التي من المفترض أن تكون للجميع، ورد الجميل يكبح جماح النوايا التي تسعى إلى طمس إنهاض الوطن فالقيمة لنا جميعاً، لجماهير الشعب السوداني التي قدمت لأبنائها في زمن مضى مجانية التعليم والصحة وأسست في وجداننا إنساناً خيّراً. رد الجميل كفكرة وتطبيق ليست أكثر من ذرة رمل في صحراء أو نقطة ماء في محيط، نحلم بان تحتل مساحة أكبر وتحقق أهدافها. وهذه حقيقة وإذا لم نقل ونؤمن بها فتلك كارثة. بمعنى أن حجم الفقر والنزوح وأزمات الصحة والتعليم تحتاج إلى جهد دولة توظف كل خيرات الوطن ومقدراته وثرواته لمصلحة مكافحة الأمراض والأوبئة، وأول هذه الوسائل إنهاء كافة أشكال النزاع والحروب باعتماد التوزيع العادل للثروة فهو مدخل حقيقي لبناء وطن تتعزز فيه حقوق المواطنة. وذلك ما يؤكد عليه أهل «رد الجميل»، ويضيفون عليه أهمية العمل الخيري دون توهم في أي يوم من الأيام أنه سيكون بديلاً عن الدولة وواجباتها، ولذلك فهم، وعلى رأسهم الأستاذ محجوب شريف، الذي تغلفه السياسة من رأسه الى أخمص قدميه، الذي يبدو شديد الصرامة إلى حد الشراسة في مسألة عدم تحزيب أو تسييس العمل الطوعي الخيري في رد الجميل، فما أحط السلوك- كما يعلن - الذي يستغل حاجة الناس وفقرهم من أجل بناء حزب أو نشر فكرة. محطات أساسية حققت المنظمة منذ إنشائها حتى الآن بعض المنجزات في رد الجميل منها على سبيل المثال، مشروع (صحبة راكب)، والمشروع عبارة عن فكرة تؤسس لمعنى المشاركة الواسع. فالمنظمة لديها سيارة واحدة لهذا المشروع من نوع مرسيدس قديمة جداً أعادت تصميمها بما يلفت النظر لها وتتضمن شعاراً مكتوباً على جنباتها يقول: (كم من حقل كامن في حفنة بذور). يستهدف المشروع السودانيين القادمين من الخارج في إجازاتهم وهم بالملايين في شتى أصقاع الأرض. فإذا عاد الواحد منهم وهو محمل في جيبه او في الكيس الذي يحمله شيئاً ما مهماً كان بسيطاً ويسيراً قد يراه القادم شيئاً محرجاً او مخجلاً لبساطته وقلة فائدته من وجهة نظره، لكنه عندما يتذكر أنه واحد من ملايين الناس لكانت صحبة راكب تزخر بملايين الأشياء، وغالباً تكون حمولة السيارة روشتات للفقراء. أما مشروع تحريك الساكن والمهمل والمركون من الخير في قلوب الناس والأماكن فهو يتعلق بمحاولة النظر في ما حولنا خصوصاً في المؤسسات العامة أو منازلنا، حيث نجد بعض الأشياء التي لا نريدها فنركنها أو نرميها على مدخل المؤسسة أو المنزل وتشكل عبئاً على المكان خصوصاً الأشياء القديمة، وهي ليست من القمامة وقد يترفع صاحبها عن الذهاب بها إلى سوق البالة (الدلالة، او السوق القديمة)، وقد يلقي بها إلى الشارع، بدلاً من ذلك يمكن أن نستفيد منها، فهي أشياء يمكن إعادتها إلى دورة الحياة والاستعمال من جديد، فتصبح أحد أشكال دعم مشروعات رد الجميل. هذه الخطوة من المنظمة تسعى إلى استنطاق الصمت وجعله لساناً ينطق بالحق والواجب والأمل. وقبل ذلك كله لا تدعي المنظمة أنها ستحدث تغييراً جذرياً، بل تحلم فقط أن تكون مساهمتها معززة لقيم حفظ الجميل ورده، واكتشاف ما يمكن أن يصبح وسائل مختلفة وجديدة لتأهيل الأفكار السائدة كي تجد ممرات جديدة. بقى ان نقول «رد الجميل» منظمة سودانية الملمح والأكل والمشرب وهي دعوة لنرد الجميل للوطن والناس والمكان. كلمات على لسان محجوب شريف.. * فكرة «رد الجميل» تعتمد على تراكم الجهد وتشابك الأيادي، وليس في إنتظار أحد ما في جيبه مال قارون ليقدم لنا الحلول. * أحلم بأن تتحول «رد الجميل» الى مفهوم إجتماعي واسع يعيش بين الناس، ويأكل معهم، وينام بينهم. * مشروعات المنظمة تفتح باب الأمل نحو المزيد والمزيد من الأعمال التي يحتاجها الناس. * العمل الطوعي أو الخيري لا يمكن أن ينوب عن العمل الحكومي، لكن ما نقدمه مهما كان يسيراً هو أن تنمو وتتنامى مشاعر التضامن والحق العام ، حق الواجب لدى الناس. وإذا صارت هذه ثقافة سائدة، فذلك أحد ركائز البرنامج الذي تدعو إليه المنظمة.