الخرطوم تعيش حالة من الدهشة بين موقف يتطرف فى رفض التفاوض مع قطاع الشمال ، وآخر يرى حتمية وضرورة وأهمية عملية الحوار لإغلاق الباب فى وجه الرياح.. آخر الحجارة الملقاة فى بركة الموضوع القديم المتجدد جاء بعد تأكيدات إدريس عبد القادر رئيس وفد الحكومة لمفاوضات أديس أبابا على ضرورة السعي في حل سياسي وأمني مع القطاع دون إحداث ضرر بمصالح الشعب وحكومته، ونقل محمد الحسن الأمين رئيس لجنة الأمن والدفاع بالبرلمان عن إدريس أمس إن التفاوض مع قطاع الشمال مسألة أو قضية سياسية، مؤكداً دعم لجنته لمبدأ الحوار غير أن هناك مسائل عالقة، وأبان أن اللقاء مع بعض قيادات قطاع الشمال لا يكون متاحاً في هذه الظروف.. ليختفى السؤال المحفوف بالمحاذير عن سر التغيير المفاجئ فى الموقف الحكومى إلا قليلا.. التحليلات تذهب الى أن العاصمة السعيدة بتراجعات الدولار، على خلفية توقيع المصفوفة التنفيذية الشاملة، أضحت مطالبة بسداد فواتير إجبار جوبا على الالتزام، بإبداء مرونة أكبر فى العديد من الملفات خصوصاً وأن ثمة مؤشرات لتعرضها لضغوط كبيرة بضرورة شروع حكومة السودان والحركة الشعبية شمال في محادثات للوصول الى حل سياسي ينهي الحرب التي اندلعت في منطقتي جنوب كردفان والنيل الأزرق منذ أكثر من عام ونصف.. الخرطوم الرسمية ظلت نظرتها للأمر قاصرة بحسب وصف المراقبين للدرجة التى ألغت معه اتفاقية ممهورة بتوقيع مساعد رئيس الجمهورية نائب رئيس الحزب للشئون السياسية والتنظيمية د.نافع فيما عرف باتفاق نافع/عقار.. وظل موقف الخرطوم المعلن رفض التفاوض مع القطاع ككيان سياسى وتم اختزاله فى حالة تمرد وخروج على شرعية الدولة ليس إلا، وأن ما يغذى بقاءه ينبع من أحقاد الحلو وعقار وعرمان، واعتبر مسئولوها أن النظر للقطاع ككيان سياسى يعد كفراً مبيناً ويفتح الباب لتمردات أخرى بحسب منطق الحزب الحاكم، وأن النظر له يجب أن يكون عن طريق مكوناته من أبناء النيل الأزرق وجبال النوبة.. من جانبها ظلت الحركة الشعبية قطاع الشمال تربط زمنياً بين موافقتها على الحوار بأديس أبابا وبين تحركات دبلوماسية ماكوكية بهدف كشف تكتيكات الحزب الحاكم وإحكام الحصار حوله، وطرحت فى مواجهته قدراتها فى تكوين التحالفات وإمكانية تطويرها سواء فى الجبهة الثورية أو الفجر الجديد من بعد ذلك.. رفض الخرطوم للتفاوض أثار إستياء قطاع كبير وعريض من المعارضين، لجهة انعدام المبررات المنطقية فى تحدى الشرعية الدولية التى نصت فى قرارها 2046 على اعتبار اتفاق نافع/عقار أرضية يستند عليها للوصول الى تسويات نهائية بين الخرطوم وأبنائها فى قطاع الشمال.. ويبدو أن ما زاد من معدلات السخرية من الرفض الحكومى، ما كشفه الخبير العسكرى، الشفيع الفكى المأمون مستشار مولانا هارون بجنوب كردفان رئيس القطاع السياسى للمؤتمر الوطنى بالولاية عضو وفد التفاوض عن المنطقتين ل(الرأى العام) فى وقت سابق، بأن قطاع الشمال هو الذى يرفض التفاوض مع الحكومة، وأضاف(أفسحنا المجال للحركة للحوار والتفاوض أكثر من مرة، من أجل الوصول لحل يرضى كل الأطراف ويحقق السلام، ودعوناهم للجلوس ، لكنهم لم يحضروا). وأضاف(آخر مرة ذهبنا وانتظرناهم لكنهم لم يحضروا، ما يعنى أن ثمة شيئا فى الخفاء)، وأرجع الشفيع الفكى المأمون تعنتات القطاع وتمنعه بسبب أجندة خفية، واعتبر أن من اشتراطات التفاوض مع القطاع التحرر من الأجندات.. مراقبون يرون أن الخرطوم تتجاذبها تيارات أبرزها القائلة بضرورة الجلوس لتفويت الفرصة على المتربصين بها عقوبات وحظر واستهداف بالتفتيت، وأن التفاوض فى حد ذاته يقطع الطريق على القول بأن الخرطوم تتجاوز الشرعية الدولية فى نص القرار 2046 الصادر من مجلس الأمن الذى اعتبر اتفاق نافع/عقار أرضية للتفاوض بين الطرفين.. فيما يرى تيار آخر ويعد الغالب فى صفوف الحزب الحاكم بضرورة استباق التفاوض بالتأكيد على عملية فك الارتباط بالجنوب من خلال إخلاء سبيل الفرقتين التاسعة والعاشرة فى النيل الأزرق وجنوب كردفان، وهو الأمر الذى أعتبر نافذاً بشكل ضمنى وإلا لما وقعت الخرطوم على المصفوفة باعتبار أن فك الارتباط أحد أبرز محاور الترتيبات الأمنية التى ظلت تطالب بأولويتها لضمان استمرار السلام مع جوبا ، وهو ما يقحم قطاع الشمال فى عمق دائرة الأحداث ، بعد إعلان الجنوب فك ارتباطه عسكرياً وسياسياً مكرراً ذلك فى كل جولات التفاوض.. التحليلات ذهبت لتبرير رفض الخرطوم فى وقت سابق باعتباره مناورة سياسية الهدف منها الإصرار حتى آخر لحظة على أن التفاوض مع قطاع الشمال يعنى الضغط الأفريقى على جوبا لفك الارتباط بما يتيح للخرطوم حسم ملف الترتيبات الأمنية وبالتالى التقاط أنفاسها المنهكة بفعل تعدد الجبهات بتعدد المظالم، وأن الخرطوم لا ريب قادمة للجلوس وبسرعة أولاً بهدف استثمار الأجواء الإيجابية تجاهها بفعل التوقيع بالتالى إبراز نفسها كحافظ للجميل الافريقى، وثانياً لأن التفاوض مع قطاع الشمال يعنى عزله عن بقية مكونات الجبهة الثورية وتحركاتها المزعجة للنظام فى الآونة الأخيرة بحسب الكثيرين، ما يسهل تعطيل ولو جزء من العمليات العسكرية فى الأطراف السودانية، بالإضافة الى كل ذلك أن توقيت مفاوضات الخرطوم والقطاع يتزامن وجلسات اللجان الفنية والأمنية بين جوباوالخرطوم ما يتيح للخرطوم إحراج جوبا حال قام القطاع بما يعكر صفو المفاوضات، وبالتالى الحصول على داعم جديد لمطلب الخرطوم فى حسم الترتيبات الأمنية.. الى ذلك نقلت تقارير إعلامية عن اللواء (م) محمد العباسي الخبير الاستراتيجي، إن قطاع الشمال بالحركة الشعبية لا يمتلك إمكانيات للقتال ضد السودان بعد توقيع الاتفاق بين دولة السودان وجنوب السودان، وأضاف أنه لا يوجد مبرر أخلاقي ودواعي جديدة له بعد الاتفاقية، بجانب أنه لا يستطيع أن يتحرك دون دعم الجنوب له، وأكد العباسي أن الشعور لدى طرفي دولتي السودان لحظة توقيع الاتفاق هو الحاجة الشديدة للوصول إلى هذا الاتفاقية، وقال إن دخول قطاع الشمال في مناوشات مع دولة السودان في منطقتي النيل الازرق وجنوب كردفان غير وارد، وأن التفاوض بينه والحكومة يحتاج إلى ذكاء وترتيب أولويات لدى القطاع. فيما ترى فرضيات أن الخرطوم ستتراجع عن رفضها للتفاوض مع القطاع، باعتبار أن القطاع حالياً يدخل مرحلة الترتيبات التنظيمية ما يجعله غير مهيأ للتفاوض لجهة انغماسه فى ترتيباته الداخلية للمؤتمر العام الذى أعلن عن استضافت جوبا له بحسب تقارير اعلامية سابقة، بالتالى تغيب أي استراتيجية تفاوضية مبنية على تفويض من قيادته التى تعد انتقالية فى فترة الإعداد ومكلفة لحين انعقاد المؤتمر. ثمة من يرون أن أية محاولة لتجاوز حقيقة قطاع الشمال باعتباره أحد أضلاع المعادلة السلمية فى السودان أمرا يجافي الواقع، كما أن التوصل لاتفاق ولو جزئى مع القطاع يفسح المجال لكبح أى مهددات لتنفيذ الاتفاقات مع جوبا، وتجعل المجتمعين الدولى والاقليمى قادرين على قراءة خارطة أسباب التوترات فى المنطقة بصورة أوضح عبر تحديد المتفلتين والساعين لتأجيج النيران.. اذاً ثمة عدد من الدوائر امكانية تجديد الخرطوم لرفضها حالياً خصوصاً وأن واشنطون تبحث عما تمسك به يد الخرطوم عقب نجاحها فى توقيع المختلف حوله طويلاً..