كثير من المهتمين، وحتى غير المهتمين في بعض الأحيان، ظلوا يتحدثون كثيراً طوال الأيام الفائتة عن الأزمة الإنسانية الناتجة عن هجوم متمردي الجبهة الثورية على أبو كرشولا، دون أن يقولوا شيئاً في الواقع. فهنالك الكثير من الروايات المتقاطعة لما حدث، والتقديرات المتفاوتة لحجم الأزمة الإنسانية التي خلفها ذلك الهجوم على الأرض بعيداً عن حسابات التهوين أو التهويل. وفي إطار بحثها عن الحقائق، ومحاولتها إستجلاء الموقف الإنساني كما هو، جلست (الرأي العام) إلى د. سليمان عبد الرحمن سليمان مرحب مفوض العون الإنساني بمكتبه صبيحة الأربعاء الماضي، فهو أنسب من يتحدث في هذا الأمر لجهة معرفته العميقة بدقائق وتفاصيل القضية الإنسانية وتداعياتها المختلفة من واقع مسؤوليته المباشرة عن هذا الملف. واستطاع في هذا الحوار أن يقدم - دونما تلجلج- إضاءات ومعلومات وحقائق جديدة حسبما يتضح من إفاداته التالية: * يتوجس البعض من أن تحرير أبو كرشولا قد يقود لأزمة إنسانية جديدة لأن المواطنين هناك قد تستخدمهم الحركات كدروع بشرية.. ألا ترى أن مثل هذا التوجس مبرراً؟ - التوجس مبرر، لكن أية دولة في العالم، وبنص القانون الدولي لديها حدودها وسيادتها المعترف بها دولياً وتجعلها موجودة في منظومة دولية اسمها الأممالمتحدة، وفي حال أي اعتداء على هذه الدولة أو على سيادتها فعندها حق الرد. وتقدير الموقف سيتم، وليس هناك حرب لا يوجد فيها ضحايا أو جانب إنساني، لكن يجب أن يكون ذلك في أقل حد ممكن، وليس هناك أي اشتباك لا يفرز قضية إنسانية تحتاج لتدخل عاجل، فالدولة تعي ذلك تماماً وهى أيضاً حريصة على تصحيح الوضع وإعادته إلى طبيعته، فما ذنب أهل أبو كرشولا أن تنتزع منهم مدينتهم ويصبحون نازحين؟.. فهم يريدون أن يعودوا إلى ممتلكاتهم وإلى مزارعهم ومراعيهم، ويريدون أن يعيشوا في المدينة التي هى مسقط رأسهم مثلهم مثل بقية سكان السودان والعالم كله، فهنالك أشياء تعلو على كل شيء حتى وإن كان فيها بعض التضحيات أو الأثر الإنساني السالب أحياناً. *إذا كان عدد الذين نزحوا بسبب الأحداث الأخيرة يزيدون عن الثلاثين ألفاً، فهل هناك أية إحصاءات تقريبية للذين مازالوا هناك في أبو كرشولا؟ - حسب آخر إحصاء سكاني، وحسب مراجعتنا للولاية ومفوضية العون الإنساني بولاية شمال كردفان، فإن إدارية أبو كرشولا وهي إحدى إداريات محلية الرشاد وجملة عدد سكانها (45) ألف نسمة، ومعظم هذا العدد موزع الآن بين أم روابةوالرهد والسميح وتاندك، والبقية ذهبوا إلى ذويهم في هذه المدن وفي الخرطوم. وتقريباً معظم سكان إدارية أبو كرشولا هم الآن مع ذويهم في هذه المدن الخمس، والمتبقون مازالوا موجودين في قرى داخلية الإدارية لكنهم لم يتأثروا بالأحداث. * أوضاع النازحين في الرهد وغيرها من المناطق التي تسيطر عليها الحكومة، هي تختلف عن أوضاع النازحين في تلك المناطق التي يسيطر عليها التمرد؟ - المواطنون في مناطق الحكومة، هم أولاً موجودون داخل حماية الدولة المسؤولة أصلاً بالقانون والدستور عن حمايتهم، وعندهم الشعور الكامل بالطمأنينة والأمان وهذا أهم شيء (الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف)، والدولة باعتبار أنها هي السلطة الشرعية، فكل المجتمع الدولي يقف معها إضافة للمجتمع المحلي والشركاء الوطنيين، لذلك فإن الوضع أفضل في مناطق سيطرة الحكومة بالنسبة لهؤلاء النازحين، مما هو عليه النازحون في مناطق التمرد. لأن التمرد سيحاول توفير إحتياجاته هو أولاً قبل إحتياجات المواطن لأنه يريد أن يقاتل الدولة ويسيطر على هذه المناطق ولا تنزع منه. لذلك حركات التمرد تعمل على استغلال قضية النازحين وتسوق لها سياسياً وتريد عبرها أن تجد الدعم اللوجستي لقوات التمرد وليس للمواطنين. *عندما تكون هنالك أنباء عن تهديد منطقة ما مثل أبو كرشولا أو أم برمبيطة فإن الجيش يتحسب لصد الهجوم، في المقابل هل تتحسبون أنتم للتدخل الإنساني أم أنكم تنتظرون الهجوم ثم تتعاملون عقب ذلك من آثارها؟ - لا.. نحن متأهبون، وعندنا غرفة طوارئ تعمل على مدى ال (24) ساعة وعندها ثلاث ورديات، وعندنا ناس على خط ساخن معنا من مناطق النزاع المسلح سواء أكانت شمال كردفان أو جنوب كرفان أو النيل الأزرق، حتى في دارفور. فنحن عندنا استعداد قبلي وجاهزية للتدخل السريع، وعندنا تكامل أدوار مع فرق الهلال الأحمر في التدخل بالكادر البشري المباشر السريع واللحظي. ونحن في أي حادث حصل كنا جاهزين، وآخر مثال أمامنا هو أبو كرشولا، ففي نفس يوم وصول المتأثرين كان وصول المساعدات، فإذا لم يكن هناك استعداد قبلي فلن يكون ممكناً التدخل في نفس اليوم وحدوث هذه الاستجابة السريعة. * ماهى طبيعة المساعدات التي تقدم لهؤلاء المتأثرين والنازحين بسبب الأحداث؟ - نحن أول شيء نوفر مع السلطات المختصة الحماية ونشعرهم بأنهم وصلوا من مكان غير آمن إلى مكان آمن. وثانياً توفير الظل، والإنسان لابد له أن يأوي إلى ظل، أياً كان نوع هذا الظل. وثالثاً توفير المياه الصالحة للشرب، لأن الإنسان يعطش قبل أن يجوع. ورابعاً الإمداد الغذائي، وخامساً التدخل العلاجي، فهنالك حالات تأتي وقد تكون منهكة أو عندها بعض الجراحات أو كانت مريضة أصلاً، وهناك حالات خاصة بالنساء الحمل أو الأطفال الصغار، وهذه الخمسة مكونات هى المكونات الأساسية والرئيسة، وبعدها تأتي التدخلات النوعية في توفير الملابس وتحسين البيئة وتحسين الاحتياجات من حيث الكميات الوافرة لثلاث وجبات بدلاً عن وجبتين وكذا.. * هل الميزانية المرصودة للعون الإنساني هى كافية برأيك لمقابلة مثل هذه الاحتياجات الكبيرة؟ - هنالك ميزانيتان.. أولاً ميزانية الطوارئ العامة للدولة وهذه تأخذ أولوية للدولة وهى لكل الطوارئ العامة بما فيها الطوارئ الإنسانية إذا كانت بسبب نزاعات مسلحة أو بسبب كوارث طبيعية. وأيضاً هناك الميزانية السنوية لمفوضية العون الإنساني وأكبر بند فيها هو بند الطوارئ فهو يأخذ أولوية في وزارة المالية. ونحن نشيد بها لأنها تستجيب فوراً لهذا البند وتعطيه أولويته. الأمر الثالث فإن للدولة مخزونا إستراتيجيا من الذرة فيه نسبة مقدرة للطوارئ وهى تصرف فوراً متى ما حدث أي طارئ في البلد، وبعد ذلك هنالك الاستعداد الطبيعي للمنظمات الوطنية والشركاء الدوليين في بند الإستجابة السريعة للطوارئ، لذلك نحن دائماً لدينا جاهزية للتدخل السريع، وهذه الجاهزية على مدار العام. *في الانتهاكات التي تحدث في مناطق التمرد يتم التوثيق وعمل أفلام لإدانة الحكومة، لماذا لا تقوم الحكومة بفعل ذات الشيء وترصد وتوثق للانتهاكات الإنسانية التي يقوم بها التمرد في أبو كرشولا مثلاً؟ - هذه نقطة وجيهة وقد تكون فاتت في بعض المرات السابقة، لكن الناس انتبهوا لها في الفترة الأخيرة خاصة في أحداث جنوب كردفان والنيل الأزرق، ودارفور حقيقة هى التي لفتت النظر لهذه الجزئية عندما دخل البعض عبر المدخل الإنساني وبدأوا يضعون سيناريوهات، ويسمعون مجريات محددة ليخرجوا منها تهما ضد الدولة في انتهاكات حقوق الإنسان، لفتوا النظر إلى أن هنالك أشياء عبارة عن حقائق ثابتة لكن لم يكن الناس مهتمين بتوثيقها حتى تكون إدانة مستندية دامغة أمام مجلس حقوق الإنسان.. * ما الذي تم فعله على وجه التحديد بشأن انتهاكات أبو كرشولا الأخيرة؟ - نحن أول ما وصلنا إلى منطقة الحدث، لفت نظرنا من أول الداخلين للرهد أنهم شهدوا مذابح ومشاهد يندى لها الجبين من قوى البغي والتمرد في أبو كرشولا، فبلغنا على الفور مستشارية حقوق الإنسان والمجموعة الوطنية أن المواطنين الذين وصلوا لهم شهادات تحتاج إلى الاستماع إليها وإلى توثيق من الجهات المعنية التي تختص بهذا المجال. وفعلاً وزارة العدل ومستشارية حقوق الإنسان والمجموعة الوطنية لحقوق الإنسان كلهم تحركوا إلى موقع الحدث وقابلوا كثيرا جداً من المواطنين والمسؤولين واستمعوا إلى إفادات ورأوا على الواقع بعض المشاهد وهم الآن أعدوا فيلما توثيقيا سوف يكتمل في الأيام القادمة، وأعدوا صورا لمشاهد حية تجسد هذه الانتهاكات الصارخة لحقوق الإنسان، وسوف تبلغ بها كل المؤسسات الدولية مفوضية حقوق الإنسان في جنيف ومفوضية حقوق الإنسان بالاتحاد الإفريقي والأممالمتحدة. *هل في ذهنك قصص محددة بشأن انتهاكات المتمردين في أبو كرشولا؟ - سمعت عددا من شهود العيان الذين أتوا من أبو كرشولا إلى ما شاهدوه بأعينهم من ذبح من الأذن إلى الأذن، ومن شخص يذبح ويعلق في السلخانة مثله مثل أية بهيمة، ومثل من تنصب لهم محاكم صورية كلها تفضي إلى إعدامهم إما بالرصاص أو شنقاَ أو ذبحاً، سمعت كيف أنهم لم يراعوا الأطفال الصغار الذين شاهدوا هذه المشاهد التي يمكن أن تسبب لهم صدمة نفسية، لم يراعوا ان كثيرا من النساء الحمل يقطعن كل هذا المشوار بأرجلهن مما قد يسبب لهن بعض حالات الإجهاض أو يحدث أثراً مميتاً للجنين وهو في بطن أمه. لكن لطف الله كان موجوداً ورحمة الله كانت موجودة، وكل المتأثرين الذين وصلوا إلى شمال كردفان لم تحدث لهم أية حالة وفاة أو أية حالة تضعهم في دائرة الخطر بالنسبة لصحتهم وعافيتهم. * على المستوى الشخصي، هل سببت له مثل هذه الحوادث صدمة، أم ربما أنك كنت تتوقع مثل هذا الفعل من المتمردين؟ - أنا حقيقة لم أُصدم، ليس لأني لست بشراً، وإنما لأني أنا أصلاً طبيب، والطبيب في مهنته يعتاد على رؤية مثل هذه المشاهد، غير أن مهنة مفوضية العون الإنساني أضافت لي أن أُشاهد كل الأحداث التي حدثت في السودان على الطبيعة مباشرة، وأتدخل سريعاً جداً في المناطق المتأثرة، وأستقبل أحياناً مواطنين عائدين لتوهم من المنطقة التي تعرضت إلى الضرب والدمار، فاعتدت على مثل هذه المشاهد لذا أتعامل معها برباطة جأش وتماسك، بل على العكس بهدوء حتى انتبه لكيفية إسعاف وإعانة هذا الشخص المتأثر بأسرع ما يمكن، ونحن عندنا ما يسمى بالساعة الذهبية التي كلما استفدت منها، كلما أعدت الشخص إلى وضعه الطبيعي بأسرع ما يمكن.