فاجعة أخرى فرضت على الخرطوم أن تلوذ بصمت القبور أمس الأول، ربما ألماً أو تحسباً، والالتفات بحثاً عن تلك اللعنة التي أصابت أبناء الوطن الواحد، ليسفك بعضهم دماء البعض، وطبقاً لتصريحات مدير الإعلام جهاز الأمن والمخابرات، قامت حركة العدل والمساواة باغتيال قيادات سابقة بالحركة موقعة على اتفاق الدوحة، واستهدفت القائد محمد بشر، والقائد أركو سليمان ضحية، المنشقين عن الحركة، واللذين وقعا فى إبريل من العام الحالي اتفاقاً للسلام بالدوحة، وأعلن مدير إدارة الإعلام بجهاز الأمن والمخابرات، أن موكباً يضم بشر، وعدداً من قيادات حركة العدل والمساواة، الموقعة على اتفاق الدوحة، وصل العاصمة التشادية إنجمينا، قادماً من الدوحة، ليتحرك موكبهم غير المسلح صباح أمس الأول من مدينة أبشّي، متوجهاً الى مواقع الحركة بشمال دارفور. وكشف البيان، أن الموكب الذي تحرك - وضم الى جانب القيادات الموقعة على اتفاق السلام- مدير الأمن التشادي بمنطقة الطينة، تمركز لبعض الوقت في منطقة (بامنا) داخل الأراضي التشادية، حيث تعرض الموكب أثناء تناولهم الطعام لهجوم من قوات المتمرد جبريل إبراهيم، وقامت على الفور بتصفية كل من محمد بشر، وأركو سليمان ضحية وخمسة آخرين، وأضاف البيان بأنه تم اقتياد نحو عشرين شخصاً من الوفد، أغلبهم من عضوية المكتب التنفيذي، أبرزهم علي وافي بشار، ومولانا الهادي برمة، وبحسب مدير إدارة الإعلام بالجهاز، فإن المهاجمين استولوا على عدد من سيارات لاندكرورز استيشن، وثلاث عربات كبيرة تحمل وقوداً وتعيينات، الى جانب عربة مدير الأمن التشادي بالطينة. الحادث أعاد للأذهان سيناريوهات مماثلة بإقحام مفردة الاغتيال التي استهدفت من قبل كثيرين آخرهم د. جون قرنق النائب الأول لرئيس الجمهورية وقتها، وتبعه في ذلك إبراهيم بلندية رئيس مجلس تشريعي ولاية جنوب كردفان، إثر حادثة اغتيال استهدفت موكبه بمنطقة كتن شرق الكرقل على طريق كادوقلي ? الدلنج، بعد مغادرته كادوقلي، بالاضافة لمحاولات اغتيال مكي علي بلايل رئيس حزب العدالة الذي توفي لاحقا في حادث طائرة تلودي الشهيرة، بالإضافة لما تناقل وصنف كشائعة عن محاولات اغتيال استهدفت شخص والي جنوب كردفان مولانا أحمد هارون، وهو ما يشير لانطلاق شرارة ظاهرة الاغتيالات السياسية في أوساط الناشطين سياسياً بعد أن كانت حصرياً على ميادين العمل العسكري.. إذاً.. الاغتيال السياسي، بدأ بالظهور، بعد أن كان ظاهرة لا تعرفها الثقافة السودانية التي تتناحر صباحاً وتتسامر ليلاً، بحكم أن السياسة نشاط يمارسه الكثيرون في ظل أصل الانتماء للأرض وللشعب وللمجتمع السوداني بمسلماته وقيمه التي لا يدخل فيها الاختلاف حد الدم.. ويعضد ذلك عدم وجود رصيد سابق لعمليات الاغتيالات في التاريخ السياسي للبلاد.. كثيرون يرون أن غياب مثل تلك العمليات في التاريخ الوطني لا يعني أنه لن يحدث مستقبلاً، ويرجعها البعض للتطرف في العمل السياسي وغياب عمليات الحوار والجدل واستشراء حالة من اليأس السياسي لدى الأطراف المتسببة فيها، إلا أن ذلك في تقديرهم لا يعد مبرراً، بقدر ما أنه يشير لتدني مستوى الوعي وانهيار القيم خصوصاً قيم الحوار. ويرى المحلل السياسي والناشط الدارفورى ناصر بكداش، أن ذلك إنما يدل على عدم القدرة على قراءة خطورة الفعل لأن الطرف الآخر يمكن أن يرد، بالتالي يصبح المسرح السياسي بركة دماء كبيرة.. بينما تخوف خبير اجتماعي مقرب من دوائر الحكم، أن يصبح الاغتيال ثقافة سياسية وأداة من أدوات العمل السياسي نسبة لانفتاح القوى السياسية السودانية على الخارج وتحديداً الحركة الشعبية التي تستلهم مشاريعها من بيئة وواقع يختلف عن الواقع السوداني، مدللاً على محاولة الحركة الشعبية التماهي في نموذج المؤتمر الوطني الجنوب أفريقي الذي يتزعمه نيلسون مانديلا، بيد انه استدرك بقوله: (قيم الشارع السوداني وتصالحه وتساميه، يجعل مثل تلك الأدوات في تصفية الخصوم أمراً سلبياً ولا يشكل إضافة للطرف القائم به، فحياة الإنسان أهم من أية سياسة وأكبر من أي اختلاف). ناشطون معارضون، أعلنوا رفضهم لأسلوب الاغتيالات بسبب الاختلاف السياسي، منددين به، غير أنهم يرون أن الوطني لم يجعل أمام ساسة المناطق الأقل وعياً خياراً، مستدلين على ذلك بتزايد العنف السياسي في مناطق ضعف العمل المدني بالبلاد، وهو ما أكده د. مهدي دهب الاكاديمي والمحلل السياسي بقوله: (ضعف العمل المدني والسياسي في مناطق الهامش ذات الطبيعة القاسية يسهم بشكل أو بآخر في تفشي الظاهرة، لكن ذلك لا يعني انتشارها أو تحولها لأداة سياسية، والدليل أن طيلة ثلاثة وعشرين عاماً من عمر الحكومة الحالية لم تقم المعارضة بمثل ذلك السلوك، ما يعني أنها تزامنت ودخول الحركات المسلحة لساحة الفعل السياسي، وهو ما يضاعف المسؤولية الملقاة على مؤسسات نزع السلاح والدمج وإعادة التأهيل، بالإضافة لمؤسسات المجتمع المدني السياسية وغير السياسية التي من شأنها زيادة الوعي بأهمية الحوار والتعامل المدني السلمي).. اغتيال قيادات العدل والمساواة الموقعة على الدوحة، كثفت الاستفهامات حيال مستقبل اتفاق الدوحة في نسخته الأخيرة، لجهة تعدد ظواهر موت الاتفاقيات بموت أصحابها، ويستدعي مراقبون عبارات مني أركو مناوي قائد حركة تحرير السودان لدى وفاة د. مجذوب الخليفة وقوله: (أبوجا ماتت)، وكذلك تجربة نيفاشا واعتبارها انحرفت عن أهدافها بموت د. جون قرنق، ما يجعل الدوحة في نسختها الأخيرة خاضعة لذات المعايير.. ويذهب آدم عوض الناشط السياسي والقيادي بحركة تحرير السودان- القيادة العامة- الى أن اتفاق الدوحة الأخير لا يمثل ثقلاً كونه ملحقاً يضاف الى الاتفاقية الأم، وأن الدوحة باقية ستظل طالما طرفها الرئيسي موجود، وقال ل (الرأى العام): (وفاة معظم القيادات الموقعة على خط الدوحة للسلام الأخير، يعد خسارة كبيرة لجهة أنهم يمثلون ثقلاً بوضعيتهم داخل العدل والمساواة، لكنهم بالتأكيد لن يشكلوا متغيراً أو منعطفاً يمكن أن يشل حركة التاريخ). واعتبر عوض أن المستفيد الأول والأخير من خروج المجموعة بعملية الاغتيال الأخيرة، هو الطرف الحكومي باعتبار أن ذلك يوفر إعادة التقسيم والهيكلة في السلطة الاقليمية وولايات دارفور. ورفض الرجل اعتبار أن العملية التي استهدفت القيادات الموقعة ستغير في طبيعة الصراع الدارفوري/ دافوري، وقال: (الصراع لا يمكن أن يتحول لدارفوري دارفوري، بحكم أن طبيعة العمل الثوري تفرض على الآخرين مواقف حادة تجاه الموقعين على اتفاقات مع الحكومة، وعموماً فالعملية تتسق مع خط العدل والمساوة في إسقاط النظام)، ووصف آدم العملية بالانتكاسة في خط السلام، ودعا الأطراف للاحتكام لصوت العقل، والرجوع للعملية السلمية لتحقيق الأهداف المعلنة للثورة منذ 2003م. في المقابل، اعتبر د. عبد الناصر سلم، العملية الأخيرة نوعاً من الصراع غير المرغوب فيه باعتباره خصماً على القضية الدارفورية ككل، ورهن استمرار الدوحة من عدمه لالتزام الحكومة بإنفاذ التزاماتها لا نقصان أو زيادة الموقعين فيها.