? قضيت زهاء الساعة قبل أسبوعين في عمارة ابو العلا الجديدة في شارع الجمهورية فعادت الذاكرة إلى فترة الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي.. وكانت مناسبة الزيارة التي قادتني إلى تلك العمارة العتيقة هي معرض الكتاب المستعمل الذي يقام ليوم واحد شهرياً- تشترك فيه مجموعة من بائعي الكتب المستعملة «مع ان كثيراً منها حقيقة جديدة لنج».. في اسواق مختلفة من العاصمة المثلثة.. ? «مكان» هذا المعرض هو الذي جذبني: الفناء الذي يتوسط العمارة- وهو ما يعرف بساحة «اتينيه» المقهى العتيق.. فقد أعادتني تلك المساحة لذكريات عقود من الزمان.. ? عندما كنت أتجول في أنحاء العمارة التي غبت عنها ردحاً من الزمان بسبب العمل في الخارج- قادتني قدماي دون شعور- إلى محل بابكر محمد علي للمنتجات الفولكورية.. المرحوم بابكر كان يعمل في تجارة المصنوعات التقليدية- جلود التماسيح والأصلة والكوبرا وبيض النعام والآبنوس والعاج وسن الفيل.. ? وأذكر ان بابكر كان يستقبل رواد محلة ومعارفه وأصدقاءه بابتسامته المعهودة- مرحباً بهم- وأغلبهم ينتمون إلى الطبقة الوسطى التي اندثرت في هذا العهد البائس- موظفي خدمة مدنية ودبلوماسيين ومحامين وصحفيبن ورجال أعمال ومديري بنوك وأناس عاديين.. ? من الاصدقاء الذين كانوا يترددون من حين لآخر على محل المرحوم- السفير رحمة الله عبد الله بعد تقاعده من الخدمة الدبلوماسية كمندوب دائم للسودان في الأممالمتحدة في اوائل السبعينيات من القرن الماضي.. ? وكان بابكر يخصص ترحيباً خاصاً ب د. محمد عبد الله الريح «حساس محمد حساس» الذي اشتهر بقفشاته الساخرة.. كما كان صديقاً للخبير الاقتصادي عثمان سوار الدهب.. ? المنتجات السودانية التقليدية كانت تجذب كثيرا من السواح المحليين والأجانب.. وكان معرض بابكر الذي خلفه في إدارته بعض أقاربه - واحداً من عدة محلات للمنتجات المحلية في عمارة أبو العلا- ولكن يبدو الآن ان الركود قد طالها أيضاً- كما أصاب كثيرا من المؤسسات الخدمية والتجارية في السوق الأفرنجي نظراً على يبدو لانتقال جل خدماتها إلى أنحاء متفرقة من العاصمة.. السوق الأفرنجي عموماً فقد بريقه - إذ ان معظم المحلات والمؤسسات والمكاتب تغلق أبوابها بعد الظهيرة فيخيم عليها الظلام عند حلول المساء- مقارنة بالأيام الغابرة حين كان هذا السوق يسهر حتى الساعات الأولى من الصباح وخاصة أماكن اللهو.. ? يوم الخميس قرأت تقريراً عن السوق الأفرنجي في «اليوم التالي» يتحسر على السوق الذي كان له «شنة ورنة».. ? استمتعت كثيراً بقراءة هذا التقرير الذي خطه الصحفي الشاب عبد الجليل سليمان الذي استنطق بعض قدامى العاملين في ذلك السوق الذين عاصروا أيامه الزاهرة.. ? أحدهم يتحسر على هجرة التجار الأجانب لأسواق العاصمة وخاصة السوق الأفرنجي «السوق دا بقى قرض.. زمان الشوارع كانوا يغسلوها يومياً.. مما غادر الخواجات البلد انتهت.. مافي سوق وما في نظافة.. وسخ.. وسخ.. بومبي بازار اشهر مورد لساعات الرومر والسجاد بقى محل للتبول.. بلاعات طافحة قدام بنك الخرطوم بشارع البرلمان شرق.. ? وحسب صاحب محل ملبوسات في السوق الأفرنجي فإن التخلف لم يظل مظهر السوق العام وحسب ولكنه لحق أيضاً برواده.. فهو يشتكي من «إنهيار الذوق العام وهبوطه» في لبس الناس هذه الأيام».. ? حسين إبراهيم يعتقد ان السوق الافرنجي كان «تحفة في سبعينيات القرن الماضي» إلا ان التدهور بدأ في عهد الرئيس السابق جعفر نميري عندما قام بتأميم ومصادرة ممتلكات الأجانب.. وبينهم الاغريقي عيسى باربرا صاحب محلات باربرا الشهير الذي عاد إلى بلاده عقب قرارات التأميم.. ? عودة إلى مقهى اتينيه فإنه هو الآخر يعاني من الركود.. زبائن يعدون على أصابع اليد يرتادونه هذه الأيام وطلباتهم تنحصر في سندوتشات وبعض المشروبات مثل الكركدي الذي دفعت لكوب منه جنيهين .،. وأذكر أن سعر كوب الليمون البارد الضخم على أيامنا لم يتجاوز القرشين.. «هل سمع الشباب بوحدة اسمها القرش؟؟» ? غادرت المعرض بعد صلاة المغرب وأنا أتأبط الكتاب الوحيد حسب مقدرتي ودفعت ثمناً له 15 جنيهاً لمؤلفه الزنجي الامريكي الراحل جيمس بولدوين Blues For MR. Charlis ترجمته بتصرف «جنازة جاز حزائنية لمستر شارلي» ارجو ان أكون قد وفقت في الترجمة..