عندما كنا في رحلة مع الرئيس السابق نميري عام 1970م، وتوقفنا في قرية صغيرة على الحدود مباشرة مع احدى الدول ، طلب مدير عام شرطة المديرية التي تقع فيها القرية من الرئيس ان يسمح بترحيل القرية الى مسافة بعيدة عن الحدود لان سكانها يقومون بتهريب البضائع من والى تلك الدولة ، فاستشاط النميري غضبا وقال له : الارض هي الشرف واذا قمنا بارجاع هؤلاء المواطنين الى الوراء فإن جنود تلك الدولة الذين تشاهدهم الآن بالعين المجردة سيتقدمون الى هذا المكان ، واضاف : نحن لا نشجع التهريب ما دام في حدود جوالين سكر مقابل عشرة كرتونات صابون ويمكننا ان نطور ذلك الى تجارة بينية مقننة بين الدولتين او تكامل تجاري . ان الحاجة تدعو الآن الى مثل ما ذهب إليه الرئيس السابق لا لايقاف التهريب على الحدود ولكن لتأمينها وسد المنافذ امام الحركات المسلحة التي تخترق تلك الحدود والقيام بعمليات الكر والفر التي تشبه حرب (القوريلا) في الغابة ، وبهذا يمكن الحد من هجماتها وقطع طرق امدادها بالسلاح او الذخيرة ، خاصة وان كل الحركات بدارفور والجبهة الثورية بجنوب كردفان وقوات المتمردين في ولاية النيل الازرق ليس لديها منافذ بحرية ،وتكثيف القرى على الحدود مباشرة تشكل مع حرس الحدود سياجا اجتماعيا منعيا للحد من اذاها .واقرب مثال لما اوردناه هدوء الاحوال على الحدود مع ارتيريا في منطقة (قرورة)اذ يتعايش الشعبان في قرورة السودانية وقرورة الارتيرية الى درجة ان البئر التي يشرب منها المواطنون واحدة وتقع على الحدود مباشرة ، والطاحونة التي توفر الدقيق لسكان القريتين مكانها قرورة الارتيرية ومدرسة الاساس واحدة لطلاب المنطقتين في قرورة السودانية ، وعلينا تعميم هذا التعايش على كل الحدود مع دول الجوار .. أذكر عندما كنا في زيارة مع وزير الداخلية في الديمقراطية الثانية للحدود السودانية بشرق السودان امتدت حتى الى ما ابعد من حلايب ..وعندما وقف الوفد أمام متاجر من الجريد لبيع المنتجات المصرية طلب مني مساعد وكيل وزارة الداخلية الطيب عبد الله ان اشتري له فنايل (جيل) المصرية الجيدة الصنع لان الوزير سمح فقط لاعضاء الوفد غير الرسميين باجتياز الحدود ، وهو ايضا ما حدث عندما كنا مع نميري في قرية (قيسان ) على الحدود مع اثيوبيا وتم السماح للصحفيين بالذهاب الى قرية اثيوبية صغيرة وراء الحدود لان الزيارات بين المواطنين في الدولتين على الحدود لم تكن ممنوعة ولا تتطلب تأشيرة ، وهذا ما نود تطبيقه في كل القرى الحدودية التي نرى نشرها حاليا ، وقد كان لنا في (ابيي ) اروع المثل على مثل هذا التعايش بين المواطنين الشماليين والجنوبيين الى درجة التصاهر ، واذا ذهب الانفصال بهذا الانصهار التاريخي فإن دولة الجنوب الوليدة والمضطربة عندما يعود لها رشدها ستسعى لاعادة هذه اللحمة لان مصالحها لحدود آمنة تتقدم على دولة الشمال المستقرة.