احتل الفريق الركن أول مهندس عبد الرحيم محمد حسين وزير الدفاع موقعه داخل قبة البرلمان في جلسة أمس، قبل اكتمال نصاب الجلسة وقبل بدايتها بوقت غير قصير على الرغم من تأخر الجلسة زهاء النصف ساعة عن موعدها المضروب بسبب تأخير النواب، حتى أن سامية أحمد محمد نائب الرئيس، التي تولت قيادة دفة الجلسة أمس، لوّحت بتعليقها حال لم يكتمل النصاب، وأبدت امتعاضاً واضحاً من عدم دخول النواب، وقالت مخاطبةً إياهم: دخولكم القاعة أفضل لكم من التواجد خارجها. كل هذا الحوار يدور والفريق جالس ينتظر النواب الذين سبق وأن انتظروا مجيئه كثيراً إبان التداعيات الأمنية الأخيرة بالبلاد، غير أن وزير الدفاع ربما عوّض غيابه وسجل حضوراً لافتاً على مدى يومين في جلسات البرلمان وداخل اجتماعات اللجان عقب الجلسات. تواجد وزير الدفاع على مدى يومين لا يحتاج إلى تفسير، وبين يدي المجلس الوطني قوانين خاصة بالقوات المسلحة والدفاع الشعبي والخدمة الوطنية والإحتياطي. وعلى مدى يومين احتد الجدل حول قانون القوات المسلحة خاصة في المادة (4) بالقانون وما اختلف حوله النواب وحواه تقرير اللجان للجلسة الماضية في القانون الجديد بمبررات أنها تخص جرائم ذات طبيعة عسكرية، بينما جاءت دفوعات الإسقاط من لجنة البرلمان بأن المواد تخول للقوات المسلحة محاكمة المدنيين عسكرياً. وحينما عاد الأمر إلى اللجنة بمقترح من رئيس البرلمان مولانا أحمد إبراهيم الطاهر لمزيدٍ من التشاور شرعت اللجان في اجتماعات سبقت جلسة أمس بحضور وزير الدفاع ورئيس وقيادات القضاء العسكري أخضع في التعديل الذي أجرته اللجنة واعترض عليه الوزير إلى مزيد من النقاش والبحث. وحظيت جلسة أمس التي تلا فيها محمد الحسن الأمين رئيس لجنة الامن والدفاع التقرير الإضافي والذي قررت فيه اللجان إلغاء الفقرة التي تحوي الفصول محل الخلاف بين النواب والدفاع واستبدالها بفقرة جديدة وإضافة ثلاث فقرات ليشمل الخاضعين لتطبيق القانون من يرتكبون جرائم في إطار القوات المسلحة والعمل العسكري من غير العسكريين لضمان استبعاد المتهمين المدنيين من المحاكمات العسكرية. من جهته، وافق وزير الدفاع على المقترح الجديد والذي أخذت فيه اللجان النصوص التي تلي الأعمال العسكرية، وقال في مداخلته: نحن في القوات المسلحة نوافق على التعديلات التي تمت، وإنّ القرار الذي خرج به اجتماع اللجان أعطى القانون جودة وحصناً في المسائل الأمنية، فضلاً عن مرافعته بشأن المحاكم العسكرية نفسها ومحاولته نزع مخاوف النواب على المدنيين من المحاكم العسكرية، وقال إنّ المدنيين الذين يخضعون للقانون العسكري أشخاص ارتضوا لأنفسهم لباس الصبغة العسكرية ويقودون تنظيمات عسكرية بزي عسكري ورتب عسكرية. وبرغم أن اللجان اختارت على ما يبدو حلاً وسطياً الآن لكنه لم يمنع الأصوات الرافضة من إثارة موجة جدل ساخنة في جلسة أمس، إلاّ أنّ وزير الدفاع دافع عن المحاكمات العسكرية وخاطب النواب رداً على تلك الاعتراضات بقوله (يا اخوانا) في نص الدستور المادة (125) تخول مراجعة كل الأحكام المنشأة بموجب قوانين قومية بواسطة المحكمة القومية العليا، وأكد للنواب أن كل أحكام القضاء العسكري كبرت أو صغرت خاضعةٌ للفحص والمراجعة بواسطة المحكمة القومية العليا، وأن القضاء العسكري جزءٌ من القضاء السوداني وملتزمٌ بكل الضوابط، وأضاف: من ناحية المؤهلات نحن نتشدد أكثر من القضاء المدني وكل المعايير الخاصة بالقضاء موجودة. وذكر وزير الدفاع النواب بأن المحاكمات العسكرية موجودة في كل العالم وتحاكم غير العسكريين، وتحدث عن سجون أمريكا في كل العالم وغيرها، وشدد بقوله: (يا اخوانا ما في دولة في العالم لا تضع اعتبارا لأمنها القومي الأهمية المطلوبة)، وتابع: نحن لا نتحدث عن شخص مدني، بل عن شخص منح نفسه صفة عسكرية وتنظيما ورتبا وقائدا عاما ويقوم بأعمال عسكرية معادية ولا نتحدّث عن شخص مدني نأتي به من (السوق) لنحاكمه. وفي المقابل، دفع الفاضل حاج سليمان رئيس لجنة التشريع والعدل بمزيدٍ من الشرح، وأوضح أنّ الجرائم المعنية أفعال تشكل جرائم في القانون الجنائي، وقال: (لم نأخذ ولم نجرد القانون الجنائي)، ولكن هناك بعض الأفعال في شكل جرائم ترتبط بالقوات المسلحة. ووقف على الضفة الأخرى من القانون النائب عبد الله علي مسار وانتقد محاكمة المدنيين عسكرياً، وقال إنه أمر يراه مخالفاً للمواثيق الدولية ويجعل من السودان دولة بوليسية - حد تعبيره -، ويضيق الخناق على السودان دولياً، وذهب مسار إلى أنّ الأمر يجعل هنالك تكرس للعمل العسكري، واتهم مسار وزير الدفاع بممارسة ضغوط على البرلمان، وقال: نحن لا نخضع لأي ضغوط، ووصف القانون بالتجريمي والمفصل لمواقف محددة، وأشخاص محددين، وزاد: نحن لا نوافق على محاكمة أي مدني في محكمة عسكرية مهما كان الجرم الذي ارتكبه. واتفق مع اعتراض مسار على القانون عددٌ من النواب بينهم إسماعيل حسين العضو عن الشعبي الذي حرر مذكرة رفض عقب الجلسة، بجانب العضو المستقل محمد صديق دروس الذي قال إن القانون رجعة إلى الوراء وانتكاسة تشريعية، وأضاف: (القانون الجنائي كفاية). لكن في المقابل، وجد القانون وجهات نظر مؤيدة ناصرها هجو قسم السيد نائب رئيس البرلمان، الذي قال إنّ المحاكم العسكرية ليست محاكم (بلطجية) أو (كاوبوي)، بل محاكم وقضاء نزيه، وأوضح أنّ التعديل لم يدخل المدني في العسكري، وإنما أدخل من سمى نفسه بفريق ولواء وقائد أركان ويحارب الدولة، وأشار إلى أن العالم كله به محاكم عسكرية، وقال للنواب: يجب ألاّ نكون (حساسين) وأن الفرق العسكرية إيجازية وسريعة. وعلق الفريق حسين عبد الله جبريل بأن العسكريين والقانونيين تباروا مباراة حرة في القانون، خاصةً وأنّ العسكريين بينهم قانونيون أيضاً، وقال إن القانون الجنائي يحكمنا جميعاً، كما أنّ القوات المسلحة لابد لها من قانون، وأوضح أنّ القانون توصل إلى مراعاة أوضاع العسكريين الذين يعملون في ظروف قاسية، وهناك فئة تنتحل شخصيتهم وتلبس (الكاكي) وتنتهك الدماء. ولم تجد المطالبة التي دفع بها نوابٌ بضرورة اللجوء إلى أخذ رأي القضاء في الشأن، واستدعاء رئيس القضاء، وقالوا إنه أمرٌ لا يجوز دستورياً. ومن النقاط التي أثارت جدلاً أيضاً، حديث القانون عن العقوبة العسكرية التي تطال التصوير في المواقع العسكرية الممنوعة. وقال العضو إبراهيم بحر الدين إنّ الشعب السوداني كله يحمل (موبايلات) بها أجهزة تصوير والمواقع العسكرية داخل المدن، فهل كل هؤلاء مجرمون؟ إلا أن وزير الدفاع رد عليه بأن الأمر واضح، وأنه شخصياً يحمل جهاز تصوير لكن المقصود تصوير المواقع العسكرية، ومن يدخل دون إذن لمشروع منطقة عسكرية أو يأخذ صورة أو تخطيطا أو نموذجا لأية منطقة عسكرية. الجدل حول المادة (4) أُخضع للتصويت، لكن حينما ارتفعت الأصوات المعترضة بكلمة (لا) وتفوّقت على المؤيدة ب (نعم) اضطر محمد الحسن الأمين لإعمال حقه بحسب اللائحة، وطالب رئيس الجلسة سامية أحمد محمد بأن يكون التصويت (وقوفاً)، وعد الأصوات بمبرر أن الأصوات ربما تكون عالية وليست كثيرة العدد الأمر الذي أثبته فعلياً التصويت (بالعدد)، حيث وافق عليه (109) نواب، واعترض (39) بينهم د. غازي صلاح الدين العتباني الذي أبدى مخاوفه من اتخاذ قرار خطير دون تريث، وامتنع عن التصويت (8) نواب. وهذه الخطوة الأخيرة التي قام بها محمد الحسن الأمين وبرلماني قديم أنقذت القانون في هذه المواد من السقوط وهي الخطوة التي ابتسم لها وزير الدفاع في خاتمة المطاف. محمد الحسن الأمين سلّط الضوء في لقاء صحفي قصير على القانون لجهة أنه أخذ حيزاً مقدراً من الجدل، وقال: نحن حريصون كل الحرص بألاّ يتعرّض أي مدني لمحاكم عسكرية، وحتى الانقلابات لا تقع في دائرة القانون ما لم يكن هناك جرم عسكري، ورد على مخاوف الصحفيين من أن يتم إعمال القانون ضدهم في شأن الحديث عن المعلومات (اطمئنوا لن يُعاقب صحفي عسكرياً). الأمين ذكر بأن أبرز ملامح القانون، أنه ألغى منصب القائد العام، ووزع مهامه على وزير الدفاع ورئيس هيئة الأركان المشتركة. الجلسة لم تخلُ من المواقف والمداخلات الطريفة، حيث ذكرت إحدى النائبات رداً على ما ذكره القانون من معاقبة المدني الذي يحرض عسكريا بقولها (إنتو تخلو العسكري الحرضوه وتعاقبوا المحرض، والأولى تعاقبوا العسكري البسمع التحريض).