(لا يغسل القلب إلا المأساة).. حكمة ربما بدأت تتسلل إلى نفوس إسلاميي القاهرة بعد أقل من عام على تضييعهم لما يُعرف بشرعيتهم الدستورية التي صنعتها وعودهم وتحالفاتهم مع أنصار الدولة المدنية والعلمانيين وربما الأقباط فى مُواجهة احتمالات عودة الفلول تحت غطاء الصندوق.. مأساة ربما لن تطهر القلوب فقط ولكن العقول التي افترضت أنّ الشارع المصري ككل الشوارع العربية يمكن تمييع مواقفه بعناوين برّاقة باسم الشرعية التي بالأصل هي صناعة شعبية. إسلاميو القاهرة ربما لم تتطور مأساتهم حد عض أصابع الندم على التفريط، فغاب عن المشهد المصري الوعد الإخواني بنائب رئيس قبطي، وطمست ملامح الحكومة الائتلافية التي تضم النخب والتكنوقراط من مختلف القوى السياسية وضاع الوعد بتعديل مواد الدستور المختلف عليها واستعاض مرسي بإعلان دستوري يجعل كل الصلاحيات في يده ليخرج الشارع مصادراً شرعية الرئيس مرسي ملقياً بحكم إسلاميي مصر ضمن القائمة السوداء المعهودة ومضيعاً عليهم فرصة تاريخية في تأسيس تاريخ بديل. التمكين بحسب المراقبين وأخونة الدولة المصرية بدا كلمة السر التي جعلت الكثيرين في الشارع المصري يديرون ظهرهم للإخوان بعد أن حملوهم الى دست الحكم وفي الوقت الذي كانت فيه أقرب نماذج حكم الإسلاميين في الخرطوم تبحث عن مخرج من عهد التمكين كانت القاهرة تقتفي الأثر السيئ بصورة تحسد عليها. الخرطوم بدت أكثر تحفظاً عما هو مألوف في إعلان موقف واضح ومباشر من التطورات المصرية، لتحمل تقارير إعلامية تأجيل زيارة الرئيس البشير إلى القاهرة قبل أن تبلغ الأحداث ذروتها بخلع الرئيس مرسي ومصادرة شرعيته، ليرحل السيناريو في بحث الإسلاميين عن شرعية مفقودة. الخرطوم الرسمية خرجت عن صمتها واكتفت حكومتها بترديد عبارات دبلوماسية معهودة، وصفت بالرزينة في معرض التقييم، بينما أخذ حزبها الحاكم طبقاً للمراقبين يبتعد عن محكات تجربة العراق إبان غزوه خوفاً من سداد ذات الثمن عزلة واستهدافا برغم التقارب الأيدولوجي والاحتفاء المبالغ فيه إبان فوز مرسي. الحركة الإسلامية السودانية باعتبارها الصيغة الأكثر مرونةً في تعاطي الإسلاميين الخرطوميين مع غيرهم على مستوى العالم بعد صيام طال، كسرت حاجز الصمت وأعلنت موقفها واضحاً مما جرى في القاهرة واعتبرت الطريقة التي عزل بها الرئيس محمد مرسي تمثل خروجاً صريحاً على قواعد الممارسة الديمقراطية التي توافق عليها الشعب المصري وتمثل تحايلاً وتكسيراً للقواعد والأساليب الديمقراطية المتفق عليها، متمنيةً أن يقوم الجيش والقضاء المصريين باستعادة الشرعية والالتزام بقواعد الممارسة الديمقراطية المتعارف عليها عالمياً. كثيرون اعتبروا أنّ خطوة الحركة الإسلامية السودانية طبيعية ومتسقة بحكم تطابق المرجعيات التي حملت مرسي للحكم ومرجعياتها كتنظيمات حركية، وأن بروز خطابها لا يشذ عن القاعدة العامة التي جعلت كل التنظيمات الإسلامية في العالم ترفض ما تم في القاهرة. المفارقة في شوارع الخرطوم حملها د. حسن الترابي أمس الأول بإعلان رفضه لما تم في القاهرة مسجلاً موقفاً بدا متطابقاً بحسب المحللين مع الحركة الإسلامية رافد المؤتمر الوطني الحزب الحاكم وألد أعداء الترابي، وتم تفسير ذلك بحكم انبهار إسلاميي القاهرة بشخصية الترابي وتأثير تجربته فيهم وهو ما عبرت عنه حشود الإسلاميين لدى استقباله في القاهره وأثناء محاضراته. التحليلات اختلفت في الانحياز أو الوقوف بالضد من التطورات المصرية، بيد أن ثمة اجماعاً على استثنائية الوضع في قاهرة المعز وان المستقبل لا يحمل كثيرا من أمل يقود الى هدوء جديد، فيما أعتبر يساريون خرطوميون أن ما تم في القاهرة هو تعبير حقيقي عن ارادة ووعي الشارع المصري وان نكوص أي كان بعهوده يكون مصيره نزع الشرعية عنه. وطبقاً للوقائع والمتابعات فان الجيش المصري دعا في أكثر من مرحلة ومنذ بيانه الاول الى توافق وطني باعتباره محل اجماع بعد رفض القوى المصرية لدعوة الرئيس مرسي، بهدف انتاج خارطة طريق تعبر بمصر الى بر الامان وتفض تظاهرات الشوارع ، الا أن حزب الحرية والعدالة حتى اللحظات الاخيرة من مهلة الجيش جدد مقاطعته لاجتماعات المؤسسة العسكرية بالقوى السياسية، في الوقت الذي بدأ بطرح سلسلة من التنازلات بالاساس كانت المطالب الاولية والمتفق عليها بين مرسي والقوى السياسية المصرية وماطل في تنفيذها الاول حتى انفجر الوضع.. ودلل محللو اليسار على عدم اعتبار ما تم في القاهرة انقلاباً لجهة اعلان الجيش لخطواته بشكل مباشر و واضح واخطار رئاسة الجمهورية بآرائه في القضايا والمشكلات بالاضافة لبيانه الذي أقصى فيه مرسي وأعلن انحيازه للخيار الجماهيري بعد عرض الاستفتاء على الرئيس والذي خاطب الرئيس مرسي واشار اليه بالرئيس مكرراً عدم رغبته لعب أي دور سياسي بقدر ما ان دوره الوطني هو ما فرض عليه التحرك ، ويربط المحللون بين ما تم من الجيش المصري وبين ما تم في مارس ابريل 85 بالخرطوم وانحياز الجيش لانتفاضة الشارع السوداني بالتالي فان ما تم ليس انقلاباً.. اسلاميون سودانيون بدوا مدركين لخطورة انجراف الاسلاميين المصريين وراء الثأر أو في اعادة مرسي للحكم ، ونصح القيادي الإسلامي ومستشار الرئيس السوداني السابق الدكتور غازي صلاح الدين، الإخوان المسلمين في مصر بالرهان على الديمقراطية والالتزام بمعاييرها ونتائجها حتى وإن خسروا السلطة. وقال إنهم »يجب أن يعلموا ? الإخوان المسلمون ? أن المجتمع ومصر أهم من السلطة، لأن المجتمع هو الحفيظ على القيم، وهو الذي يصنع السلطة ويكيف الثقافة السياسية«، مطالبا الجماعة الإسلامية في مصر بأن تبقى معتمدة على محيطها الاستراتيجي وألا تستعديه، وقال »أول طبقة في محيطها الاستراتيجي الذي ينبغي أن تهتم بها هي الشعب المصري«. وأضاف »إذا قوّت الحركة حلفها مع الشعب الذي يحيط بها يمكنها عندئذ أن تكسب معاركها«، ناصحا الإخوان المسلمين بأن يجعلوا مصر قبل الجماعة لأن مشروعية الرئاسة مستمدة من الشعب لا من الجماعة. عموماً يظل المشهد المصري بين حالتي الشد والجذب ، فيما تحرص الخرطوم على ابداء رزانتها تجاه التصعيد ، ويفسر الكثيرون ابتعاد اسلاميو الخرطوم عن اتخاذ مواقف صارمة لصالح القاهرة بسبب انشغالهم الداخلي ، لكن في كل الاحوال تظل قلوبهم مع الشرعية المفقودة وعقولهم مع التعامل مع الواقع المصري الجديد أياً كان القادم لسدة الحكم، فتعامل الحاكمين في القاهرةوالخرطوم تحكمه المصالحة الإستراتيجية، وبالتالي يظل حتمياً أياً كان الرأي في الذين يديرون أوضاع البلاد هنا أو هناك.