شريط الكاسيت الذي نشرت جزءاً منه صحيفة (السياسة) لمالكها خالد فرح إبان الديمقراطية الثالثة، كان يحوى على حد زعم الصحيفة محادثة مسجلة بين قنصل لإحدى السفارات العربية وقيادي حزبي كبير، ويسأل فيه الأول الأخير، هل استلمت النقود بخصوص الانتخابات؟ فيقول نعم، يعود ويسأله، في كرتونة؟ فيقول الآخر نعم، يعود القنصل ويسأله: والنقود من فئة «أبو عشرة جنيه وأبو خمسة جنيه»؟، فيجيب هذا نعم، شريط أثارت الأحداث اللاحقة بعض الشكوك حيال مصداقيته، شكوك من قبيل إيقاف الصحيفة لنشر محتوى الشريط بسرعة، فضلاً عن كون الصحيفة محسوبة على حزب الأمة المنافس التقليدي للحزب الذي ينتمي اليه القيادي المستهدف بالوثيقة، فصاحبها هو شقيق لمستشار الصادق الأمني في الديمقراطية الثالثة، في المقابل لم تعدم مصداقية الشريط حدثاً يصب في خانة دعمها، تمثل في تبديل القنصل بعد فترة قصيرة. ------ سيرة أشرطة الكاسيت، والصور الفوتغرافية، والمستندات المكتوبة، أعادتها إلى الذهن وثائق طفت إلى السطح أخيراًُ، منها خطابان وجههما محافظ ملوط بأعالي النيل لاثنين من ناشطي المؤتمر الوطني يأمرهما فيهما بالمغادرة، أما الوثيقة الأبرز، فكانت عبارة عن ورقة قدمها مسئول مجهول في إحدى أمانات المؤتمر الوطني عن موضوع الانتخابات، والاحترازات والأساليب التي يجدر بالحزب إتباعها لضمان كسب الجولة، ورقة نشرت على الانترنت، وخلت من التوقيعات أو الأختام، باستثناء ترقيم بخط اليد يبدو أنه أضيف على عجل في ذيل الصفحات الثماني. الخطابان اللذان يأمر فيهما محافظ مقاطعة ملوط الناشطين بالمغادرة في غضون أربع وعشرين ساعة بسبب إثارتهما للمشاكل الإجتماعية مذيلان بختمه وتوقيعه، وأحدهما مكتوب بخط اليد في أسفله (ياسر قورداك..مؤتمر وطني...مسئول عن متابعة تسجيل أعضاء المؤتمر الوطني في منطقة ماج)..اللافت أن كلا الخطابين سبقت اسم المأمور بالمغادرة فيهما كلمة السيد، ومرد هذا التهذيب ربما كان في تلك الحقيقة التي اضطر قورداك إلى كشفها لمعتقليه، عقب تعذيبه كما قال، ومفادها أنه ابن عم رياك مشار نائب رئيس حكومة الجنوب، أما الغرض من تعميم نسخ من الخطابين عقب أن أعلن عنهما الوطنى في مؤتمر صحفي مطلع الأسبوع الماضي، فيبدو واضحاً، وضع الحركة الشعبية في الزاوية وإثبات التهمة الموجهة ضدها بمنع الأحزاب الأخرى من ممارسة السياسة في الجنوب، في وقت تنادى فيه بالحريات في الشمال. مصدر الوثيقتين السابقتين كان هو نفسه المستهدف من وراء نشرهما، محافظ المقاطعة الذي يمثل الحركة الشعبية، أما الوثيقة التي تكشف ما ينوى الوطني إعداده للانتخابات فقد وصفها ناشرها على الانترنت بأنها مذكرة داخلية، وتقدم الورقة تقييماً لواقع الحزب قبل الانتخابات، وتوجه نقداً لبعض أوضاعه، وتدعو لتصحيحها، كما تطالب باستمالة قوى اجتماعية بعينها للحزب عبر استخدام إمكانيات الدولة، واستخدام واجهات دعوية ورياضية واجتماعية لمصلحة الوطني، ودعت الورقة للحرص على تعدد مرشحي كل حزب معارض في الدائرة الواحدة بغرض إضعافه، فضلاً عن استصحاب البعد القبلي، وتجهيز الطعون ضد مرشحي الأحزاب الأخرى. معظم ما جاء في (الوثيقة) المزعومة، وربما خلافاً لرغبات من يقفون وراء نشرها، لا يمثل خصماً على المؤتمر الوطني بقدر ما يمثل نوعاً من الدعاية له، فالوثيقة تنتقد تجارب الحزب في الانتخابات السابقة - في عهد الشمولية - وتنتقد جزءاً من واقع الحال في الحزب، وتدعو للاقتراب من الجماهير ودعمها، ونبذ الانقسامات الداخلية، ما يوحى للقاريء بأنه أمام حزب منظم يحاول تصحيح أخطائه، لكن الورقة لا تخلو من فقرات أخرى تبدو ناجحة في إصابة هدف الناشر في النيل من الوطني إذ توحي بأن الحزب يمكن أن يفعل أي شيء للفوز بنتيجة الانتخابات، ولو عبر استغلال حالة الاستقطاب القبلي التي يتهم بأنه من أشعلها، أو عبر استغلال إمكانيات الدولة التي يسيطر عليها قرابة عشرين عاماً. السؤال عمن قرر كشف الوثيقة المنسوبة للوطني، يمكن أن يقود إلى أي من خصومه السياسيين بما فيهم الحركة الشعبية التي تبادلت في السابق مع الوطنى التهديدات بالكشف عن وثائق يمكنها النيل من الطرف الآخر وتشويه صورته لدى الرأي العام، وفي هذا الإطار يقرأ البعض كشف الوطني عن خطابي محافظ ملوط كنوع من الرد على وثيقة تدابير الوطني لخوض الانتخابات. الحصول على المعلومات الموثقة أو غير الموثقة، أمر لا غنى عنه لكل من أراد النجاح في العمل العام كما يؤكد عبد الله علي مسار رئيس حزب الأمة الوطني الذي اشتهر بامتلاك عدد من الوثائق حول أحداث مختلفة، منها ملابسات مقتل داؤود يحيى بولاد القيادي المنشق عن الحركة الإسلامية، وخطب مسجلة لعبد الواحد محمد نور ألقاها من على قمة جبل مرة، ووثائق عن تصفيات قام بها قادة حركات دارفورية مسلحة ضد المنشقين، ويعزو مسار تمكنه من جمع كل هذا القدر من الوثائق المكتوبة والمسجلة والمصورة إلى ما يزيد عن هوايته في جمعها، فالتعامل مع الأحداث يتطلب الحصول على معلومات كافية أولاً، يحصل هو عليها بشكل مباشر من مصدرها، أو عبر إختراق مصادر المعلومات، أو عبر شراء المعلومة بمبلغ مالي متفق عليه، ويضيف أن امتلاك المعلومة كان أحد أسباب بقاء الانقاذ في السلطة لعقدين من الزمان. ليست الإنقاذ وحدها من يمتلك وثائق ومعلومات حساسة عن الآخرين في واقع الأمر، ويؤكد بعض العارفين ببواطن الأمور أن معظم السياسيين البارزين يمتلكون وثائق خطيرة تتعلق بأحداث أو مواقف أو ممارسات ارتكبها سياسيون آخرون، وينقل عن زعيم معارض قوله لبعض خلصائه عندما اتهم بأن له ابناً غير شرعي من امرأة سويدية انه يمكن ان يفشي وثائق ومعلومات يمتلكها عن أحد قيادات الطرف المقابل، وهو حديث يقترب في شكله ومضمونه من قولة علي الحاج الشهيرة (خلوها مستورة). (السترة)، وللمفارقة، ربما كانت سلاحاً أمضى من إفشاء الأسرار سواء كانت صغيرة أو كبيرة، فالستر على السياسي أو الجهة المعنية يمنح الطرف الذي يمتلك الوثيقة أو المعلومة ورقة رابحة تمكنه من التأثير على الطرف المستور أمره بحسب خبرة مسار في هذا الإطار، أما إفشاء الأمر وكشفه في وسائل الإعلام فيعني ضياع ورقة الستر الرابحة في يد مالكها، وضياع قدرته على إخضاع الخصم لما يريد من المواقف. خطورة الوثائق لا تقتصر على الطرف المستورة أفعاله، وتمتد لتمس حاملها والمحتفظ بها، وفوقهما الحاصل عليها، ومفشيها، فالحصول على الوثائق أو إفشائها قد يعرض الفاعل لمخاطر ليست بالقليلة، ربما تؤدى للتصفية أو الإعتداء، ويقول مسار من واقع تجربته مع وثيقة التحري مع بولاد أن الوثيقة حملت إليه بعد ساعة من كتابتها في المحضر، لكنه لم يتحدث عنها إلا بعد سنوات طويلة في توقيت مناسب، ويضيف (لو كنت أبرزتها زمان كان ودتني الآخرة).