في مثل هذا الوقت من شهر نوفمبر في بدايات هذه الألفية، خرجت في مهمة محددة (شراء زجاجة عطر) .. ثم، في طريقي إليها مررت بمكتبة أنيقة كانت مواكبة لأحدث الإصدارات، كنت أكثر من التردد عليها .. فوقفت ! .. وقفت أتأمل الكتب المرصوصة بعناية على الواجهة الزجاجية .. ثم عزمت على العودة إليها عندما يصبح في الوقت والمال متسع لذلك ! .. لحظة خروجي انبثق صاحب المكتبة الذي كنت أسميه في سري ب (الرجل المنبثق) .. وهو رجل على قدر عال من الخلق والأدب والثقافة . الأخيرة كانت تظهر في لحظات انبثاقه تلك ! .. فما أن تقف أمام كتاب .. ويبدو المكان أمام عينيك خالياً من سواك .. فتطمئن وتبدأ عيناك في إطلاق العنان لتلك النظرة الشرائية المترددة .. حتى ينبثق هو، متبرعاً بما تيسر من أساليب الإغواء الثقافي عن تاريخ وأصل و فصل الكتاب مضيقاً على ترددك الخناق ! .. يومها كنت واقفة أمام السيرة الذاتية للكاتب المغربي الراحل (محمد شكري) بشقيها (الخبز الحافي) و(الشطار)، عندما ظهر الرجل (المنبثق) متبرعاً كعادته متحدثاً (في لهجة توحي بالخطورة هذه المرة) عن اللغط والجدل اللذين أثارتهما سيرة محمد شكري الذاتية في العالم العربي .. ثم كيف أن الأزهر الشريف قد منع الجامعة الأمريكية من تناول هذا الكتاب (الخطير) المترجم إلى الأمريكية عن تفاصيل خطيرة في سيرة الكاتب بعد أن منع دخوله إلى مصر .. إلخ ..! .. يا مؤمن يا مصدق دفعت نصف ثمن زجاجة عطري المفضل مقابلاً لشراء الخبز الحافي والشطار .. واشتريت بالمبلغ المتبقي عطراً آخر صغير الحجم، رائحته كمعطرات الجو التي (تبخ) في الطائرات ! .. في مثل هذه الأيام من شهر نوفمبر قبل سنوات قرأت خبز (شكري) الحافي الذي منع المتزمتون نشره لسنوات طوال بدعوى أنه دعوة إلى الانحلال، وفهمت من يومها كيف ترك هذا الكاتب التفنن في الكتابة لغيره من المترفين واستعاض عنه بقوة التجربة وغناها .. ثم عرفت كيف أمكن لشاب أمي تعلم القراءة والكتابة وهو في سن العشرين أن يكتب أدباً يدرس في الجامعات ويترجم إلى عدة لغات حية ..فهمت جداً هذا الكاتب الذي عاش محفوفاً بالجدل ! .. في مثل هذا الوقت من شهر نوفمبر في العام ألفين وثلاثة رحل الكاتب الملعون (محمد شكري) .. وفي ذكرى رحيله السادسة ما زلت أذكر خفقة قلبي وبكائي، وأنا أقرأ : كيف أنتج الفقر في مجتمعه والداً قاسياً مثل أبيه .. وكيف جعل الفقر والده يقتل ابنه (يضرب شقيقه الصغير حتى الموت، لأنه بكى من الجوع) ! .. كانت زجاجة العطر الفاخر لتتبخر وإن طال الزمن .. أما الكتب فهي المجد والعطر الخالد .. ها أنا ذي أقلب اليوم صفحات الخبز الحافي بين يدي .. في ذكرى رحيل كاتبها الذي أنصفه العرب قليلاً .. وأساءوا فهمه كثيراً .. أعيد اليوم قراءته في خاتمة الخبز الحافي، وهو يقول واقفاً أمام قبر شقيقه الذي قتله والده : «أخي صار ملاكا. وأنا ؟ .. سأكون شيطانا، هذا لا ريب فيه .. الصغار إذا ماتوا يصيرون ملائكة والكبار شياطين .. لقد فاتني أن أكون ملاكا» ! .. أعيد قراءة الكتاب، فأتعثر بين صفحاته بفاتورة المكتبة، وعليها توقيع (الرجل المنبثق) .. فله الشكر !