مدخل: السياسة قتلت زوجي .. قتلت أبنائي .. قتلت ثلاثة من إخوتي ..وستقتلني الآن !! (ريبيكا سيمور عن فيلم يحكي قصة الإنتخابات الكينية). (1) الإحتفالية التي شهدتها باحة القصر الجمهوري مطلع فبراير العام 2005 إحتفالاً بتسليم د. جون قرنق زعيم الحركة الشعبية مهامه نائباَ أول لرئيس الجمهورية، خرج منها الجميع سعيداًَ ولكن على طريقته الخاصة: الوطني سعيد بتحقيق السلام الذي طال إنتظاره، والحركة ثملة بنشوة الوصول لإقتسام ومشاطرة الحكم والثروة، فيما خرجت قبيلة المبدعين جزلة بتفاعل د. جون مع أغنية (ياي بلدنا وكلنا أخوان) التي أداها الفنان مصطفى جوبا في تكرار لتاريخ خاله يوسف فتاكي مؤلف الأغنية ومؤديها في ذات المكان ولكن في زمان آخر هو العام 1972م والحدث إحتفالية لها ذات طعم نيفاشا، وهي إتفاقية أديس أبابا. (2) الأغنية التي اعجبت هؤلاء هي مثل سائر الاغاني السودانية التي لم تتخلف عن واقع الحال في حقبة من الحقب، فهي ذاكرة حية لكل الموروث الوطني ، الثقافي، الفني وبالطبع السياسي. ويقسم بعض النقاد الأغنية الوطنية الى ثلاث مراحل أساسية أولاها الأغنيات الوطنية التاريخية متمثلة في الاغنيات التي تحث على مقاومة الإستعمار سواء أكانت موروثا شعبياً على شاكلة مرثية رقية لشقيقها البطل عبد القادر ود حبوبة (بتريد اللطام)، أو أغنيات معاصرة خرجت من أصلاب المتعلمين نحو (صه يا كنار) رائعة محمود أبوبكر، (للعلا) لخضر حمد، و(صرخة روت دمي) لمحيي الدين صابر فضلاً عن كل وطنيات الخليل، خليل فرح وفي مقدمتها الخالدة (عازة في هواك) وحتى مرحلة الوصول لأغنيات الإستقلال المجيد (ياغريب يلا لي بلدك، وأنا سوداني) التي يؤديها حسن خليفة العطبراوي، والمتوهجة (راية إستقلالنا) لفنان إفريقيا الأول محمد وردي. المرحلة الثانية للأغنية الوطنية جاءت إبان مرحلة الحكم الوطني وإصطلح عليها ب (الوجدانيات الوطنية) كونها تشبعت بالمشاعر الوطنية ك (فجر، ونحن في السودان) اللتين يؤديهما أحمد المصطفى، (بلادي يا سنا الفجر) لعبد العزيز محمد داؤود. اما المرحلة التي يعدها النقاد الأخيرة في تطور الأغنية الوطنية، فتلت التوقيع على إتفاقية سلام أديس ابابا بين الأنانيا وحكومة مايو، أغنيات تلك الحقبة الجديدة حملت هي الأخرى أدباً جديداً اتسم بصبغة (الوحدة الوطنية) بغية تهيئة المناخ السياسي للواقع الذي فرضته الإتفاقية فراجت اغنيات على شاكلة (أرض الخير) للكاشف، (الجمال والحب في بلادي) لرمضان حسن، أما العلامة الأبرز لأغنيات تلك المرحلة فكانت (ياي بلدنا وكلنا إخوان) ليوسف فتاكي الذي استطاع الإنتقال بحب منطقته الصغيرة(ياي) وبصورة مدهشة لحب الوطن الكبير، وظهر الرواج الكبير للأغنية بترداد عدد كبير من الفنانين الشماليين لها على رأسهم صلاح مصطفى فضلاً عن انها تحولت لمارش عسكري وأهزوجة إحتفالية. (3) الفريق عبود الرئيس السابق لجمهورية السودان، إلتفت ومنذ فترة مبكرة للأدوار التي تلعبها الثقافة في تشكيل الوجدان الوطني، والأغنية كلبنة أساسية في بناء الوحدة، و لأجل تلك الغاية درج على إقامة طوافات إقليمية يشرف عليها اللواء محمد طلعت فريد وتضم في ثناياها الفنانين، والمسرحيين وفرق كرة القدم. حكومة المشير نميري مرت من ذات قضبان قطار عبود في نهجه لتعزيز الوحدة بل وأضافت لها مسارات جديدة بإستيعاب الفرق الموسيقية الجنوبية داخل أروقة (هنا أم درمان) والتلفزيون القومي ، فطل الجنوب عبر فرق أيبوني ساوند، ورومبيك، والرجاف فيما ظهر الفنان الجنوبي الأصل عبد الله دينق وهو يصدح بأغنيات الحقيبة وفترة ما بعد الحقيبة. (4) غير أن كل الأغنيات التي نوهت بأهمية الوحدة الوطنية ستجد نفسها ?ربما في محطة فارقة إذا قرر الجنوبيون الإنفصال العام 2011، فعلى الرغم من تأكيدات النقاد القاطعة أن الأغنية الوطنية شكلت علامة فارقة في إستدامة السلام الذي تلا إتفاقية أديس أبابا، يوقن العديد منهم أن نقض غزل ذات الإتفاقية مطلع الثمانينيات أدى لتوقف محطة الغناء الوطني إذا إستثنينا بالكاد أغنيات الإنتفاضة. ومنذ مطلع التسعينيات، أي الفترة التي تلت وصول الإنقاذ للحكم رمت السياسة بظلالها على مجمل الأوضاع في البلاد، وبالطبع لم تكن الأغنية بعيدة عن ذلك التأثير، حكومة الإنقاذ في عهدها الأول واجهت الفنون بكثير من الشكوك وعمدت الى توظيف الأغنيات بصورة سلبية في التشجيع للحرب فضلاً عن تحويل الإعلام لبوق تبث عبره تلك الثقافة التي يراها الكثيرون غير متصالحة. موقف الإنقاذ اتخذته الحركة الشعبية ذريعة - في مرحلة ما بعد نيفاشا- لمحاكمة الفنون، وظهر ذلك جلياً في عدم إمتلاكها تصوراً واضحاً لدور الفن في مد أواصر الوحدة، كما أن الحركة وفي صراعاتها مع الوطني على وزارات الثروة كالطاقة والتعدين، فيما أبدت زهدها ربما في (لا وعيها) في الفن كأحد آليات الوحدة الجاذبة بعدم اهتمامها لوزارات على شاكلة الثقافة والإعلام. الوقوع بين مطرقة الوطني وسندان الحركة لم يكن كافياً ليدرأ تهمة التقصير الموجهة للمبدعين في جعل الوحدة جاذبة من خلال (الإكتفاء بالفرجة) على الشريكين وهما يتحركان في المسرح السياسي، التهمة نفاها الموسيقار د. أنس العاقب عن بني جلدته بالتأكيد على أنهم ضحايا السياسة السودانية، ورمي بكل الوزر على شريكي الحكم، وقال ل (الرأي العام) : تم تجاوزنا ولم يتم إشراكنا في صنع القرار وأضاف: بما أن المبدع يمتلك أفقاً أكبر من ذلك الذي يمتلكه السياسي، فهو يعيش حالة من الغيبوبة جراء رفضه مبدأ تقرير المصير الذي أسس له السياسي في وطن كان في الأصل موحداً. (5) ويبقى من الضروري معرفة السيناريوهات التي يمكن أن تؤول لها أغنية الوحدة حال قرر الجنوب الإنفصال، أول تلك السيناريوهات وضعها الناقد مصعب الصاوي بضرورة أن تعامل تلك الأغنيات بإعتبارها تمثل حقبة من التاريخ (أيقونة إجتماعية سياسية)، وتعامل معاملة شبيهة بالوثائق والمكاتبات التاريخية وقال: يجب ألا يقرن مصير تلك الأغنيات بالمصائر السياسية: أما السيناريو الذي وضعه العاقب فقد كان قاتماً وهو يرثي حقبة كاملة من الأغنيات وقال: إذا إنفصل الجنوب فإن تاريخاً فنياً كاملاً سيذهب للنسيان (6) مطلع الشهر الجاري إجتمع الإمام الصادق المهدي رئيس حزب الأمة القومي وياسر عرمان نائب الأمين العام للحركة في حفل تدشين أغنية (وحدتنا) للفنان جمال مصطفى الشهير ب (فرفور) وكأنهما يريدان القول: (لم يزل وقت الوحدة .. طفلاً يحبو) ولكن وفاة د. جون برفقة برنامج السودان الجديد، والإستقطاب السياسي الحاد، إضافة للواقع غير الجاذب، فتح الباب أمام السياسة والجغرافيا لكتابة تاريخ البلاد، وجعل من أغنيات شهيرة مثل (فيفيان ويا مسافر جوبا) للنور الجيلاني، و(المدينةجوبا) لمحمود عبد العزيز و(جنوبية) لعماد أحمد الطيب وأغنية فرفور الأخيرة ، كلها .. في مهب الريح .