هل بات الاستيراد هواية أم ضرورة؟، فبعد استشراء اشاعات الحمى النزفية هرب المواطنون من «اللحمة الكيري» إلى اللحوم البيطرية «المعقمة».. إلا أن التلفزيونات والفضائيات أضحت فيها «الكيري» بديلاً للأفكار المبدعة والمعقمة من فيروس السرقات واللطش!! مخيلة مجدبة القصة بدأت منذ أن تكاثفت القنوات الفضائية وسباقها نحو الجودة والتفرد، والبحث عن الامتياز حتى لو أدى ذلك إلى السرقة.. وظهر ذلك عندما بدأت الأفكار تموت بسبب صقيع التكرار والرتابة.. فأوعزت لمخيلة القنوات الاعلامية البحث عن موارد جاهزة، دون عناء البحث والاعداد المضني الذي يستغرقه العمل الذي يخرج مجوداً ويبذل فيه مجهود يظهر جلياً على ثناياه من حيث براعة الأفكار وتفردها. صفحات الصحف الصحافيون يشعرن الآن بألم حامض وهم يرون أفكارهم وقد تبناها زملاؤهم الاعلاميون بعد تحويرها وتدويرها ليقدمونها خلال برامجهم كأنها آتية من بنات أفكارهم، دون اعتراف للصحافيين الذين يكدون على الورق، بفضل أو جميل. ويعترف التلفزيونيون أنفسهم بأنهم لا يستطيعون العمل دون الرجوع إلى الصحافة واعتمادها مصدراً أساسياً لهم لتحضير برامجهم، لكن الصحافيين يجيبون بأن ثمة فروقاً بين السطو الكامل، والاقتباس المهني، أو حتى الاستفادة من المعلومات الواردة بالمادة الصحفية. أين المشكلة؟ لماذا يخجل الاعلاميون -في غالب الأحيان- من الافصاح عن مصادرهم المكتوبة.. والتعالي لدرجة نكران المصدر تماماً؟ يقول أحد فلاسفة الاعلام الفرنسي «بيار بورديو» في كتابه «التلفزيون.. وآليات التلاعب بالعقول» ما نصه: (إحدى المشاكل الكبرى التي يطرحها التلفزيون هي العلاقة بين التفكير والسرعة، إذ هل يمكن التفكير أثناء اللهاث بسرعة؟). السؤال مزعج دون شك.. فأولويات الاعلامي التفكير السريع لحل معضلة الزمن الابداعي، فالتلفزيون يتعامل مع نصوص الزمن الابداعي، وهو طزاجة الفكرة وحضورها الزمني المحدد، ولأن الفكرة لا تكون طازجة دوماً وغائبة في أحايين كثيرة، هنا يتبدى القلق ويبحث الاعلامي عن أفكار «بسرعة» على طريقة الفيلم الكوميدي «جاي في السريع» لذا يتناول أقرب كوب بجانبه وهو الصحفي المسكين، الذي أعد مادته من بين تباديل وتوافيق عديدة ليكسب بها رهان القاريء!! اعترافات المخرج التلفزيوني حاتم بابكر يقول: «خبر صغير في جريدة قد يكون موضوعاً لقصة تلفزيونية، أما قراءة الصحف، فهي أمر أساسي ولابد منه لأي معد أو مشتغل في الحقل التلفازي، فالكتابة أكثر رسوخاً وجدية، والمعد الجيد هو الاعلامي المتابع، فالصورة وحدها لا تكون بليغة ومعبرة، واللقطة الجيدة لا تأتي إلا من ممارسة الكتابة، ولهذا لا أنكر أن هناك سرقات من هنا وهناك يقوم بها البعض، ولكنها تكتشف بسرعة». وواقعة أخرى سردها أحد الزملاء الاعلاميين أنه شاهد عيان على برنامج فني قدمته احدى القنوات الولائية سرقت مادته بالكامل من تحقيق صحفي أجراره صحافي نشط، دون أن تتم الاشارة إلى مصادر المادة الفنية مطلقاً، علماً بأن تسلسل التحقيق سار على نفس وتيرة ما نشر بالصحيفة، دون أن يكلف المعد التلفزيوني نفسه مشقة اعادة ترتيب التحقيق!! وفي الخارج حكت احدى الصحافيات المصريات كيف دعتها قناة فضائية عربية للمشاركة في برنامج ثقافي حول «تأثير لغة الكتابة والدردشة في الموبايل والانترنت على اللغة العربية»، وذلك لأنها سبق وتناولت الموضوع في الصحافة، تقول الصحافية إنها فرحت بالدعوة لما يعنيه ذلك من اهتمام بما كتبته، ولكن سرعان ما انقلب سرورها انزعاجاً لدى بدء الحلقة، وسماعها المذيعة تتلو أجزاءً من كتابتها الصحفية خلال الحلقة، مكررة ذات الأفكار والأسئلة، دون الاشارة للمصدر، أو الكاتب الذي حل ضيفاً على الحلقة، وتقول الصحافية المصرية: «شعرت بأنني أُنتهك، وعملي يسرق أمام عيني، لا بل تطلب مني مقدمة البرنامج لأكون شاهدة زور على سرقة نفسي». ومثال آخر مثلما يتهم به الفنان والممثل السوري «ياسر العظمة» بأنه يلطش أفكار الزوايا الصحفية الساخرة، ويحولها إلى لوحات درامية كوميدية في سلسلة برامجه الشهيرة «مرايا» التي تقدمها قناة «مشكاة» الفضائية. ذاكرة مثقوبة ما نعتبره سرقة، يعده الآخرون استسهالاً وطرحاً لأفكار شائعة، ويبررون ذلك بضيق الوقت أمام الاعلامي، وهذه ظاهرة مستشرية في التلفزيونات وكذلك الاذاعات ضعيفة الموارد، وذلك لأن العمل بهذه المؤسسات لا يفسح المجال أمام الكوادر الاعلامية لابراز مهاراتهم وتميزهم مما يؤدي إلى الاستسهال، ومحاولة انتاج الكثير من الاعمال في وقت وجيز، دونما بذل مجهود أو وقت يمنحه المعد للعمل الذي يريد تقديمه، لأن البعض يرى أنه لا داعي لذلك طالما هناك أعمال جاهزة، ومتاحة!! أين الحل؟ يرى خبراء الاعلام ومنهم برفيسور علي شمو وذلك تحت عنوانه الكبير «البديل لا العويل» أن على الأجهزة الاعلامية أن تبحث عن بدائل صحفية لتطعيم نكهات الكوادر الضعيفة التي غادرها قطار الابداع، حتى يستطيع ذلك الجهاز الاعلامي الاسهام في تقديم أفكار جريئة ومختلفة تتكامل فيها الخبرة الصحفية مع سايكولوجيا المايكروفون، بعد أن باتت هذه السرقات التي تتم للمقالات والأعمدة الصحفية، تتحول إلى ريبورتاجات مصورة أو حوارات يتم تداولها عبر برامج وفقرات تعلن بوضوح عن ضيق الأفق، وعجز الابداع!!